في الصميم …                 تحليلات ومتابعات



                                                   صلاح النصراوي

     في السعودية .. الامير محمد وزيرا للداخلية .. لا ازمة في الحكم.. الى حين

                   
ليس غريبا ان تختفي المتابعات التحليلية في الاعلام المملوك سعوديا بشأن الكثير من الاحداث البارزة في المملكة اذ ان تلك ليست من وظائف هذا الاعلام الذي يهتم عادة بقضايا الاخرين اكثر من اهتمامه بصميم قضاياه المحلية.
ويأتي تعين الامير محمد بن نايف في منصب وزير الداخلية مؤخرا وبعد اشهر من وفاة والده الامير نايف الذي تولى المنصب ذاته لاكثر من ثلاثة عقود من الزمن ليثير التساؤلات عن مغزى هذا القرار الذي اتخذه الملك عبد الله بن عبد العزيز في ظل صمت تام من الاعلام السعودي الذي اكتفى كعادته بالتهليل للقادم الجديد دون محاولة تفسيره وتحليل الخطوة والقاء الضوء على تبعاتها المحتملة.
وعلى عكس ما يثار من ان تعين الامير محمد يعكس ازمة في نظام الحكم السعودي فان الامر يبدو طبيعيا ومتسقا مع طبيعة الامور ومجريات الاحداث منذ وصول الملك عبد الله الى دست الحكم عام 2005 وسلسة التغيرات التي تبعته وخاصة تولي ثم غياب وليين للعهد من ابرز امراء الاسرة الحاكمة خلال فترة قصيرة من الزمن وفي حياته.
 كان تعيين الامير احمد بن عبد العزيز منذ البداية بعد وفاة الامير نايف مؤقتا وانتقاليا لاعتبارات تتعلق بالاحتفاظ بتقاليد العائلة والسن والاقدمية ولكنه لم يكن معبرا عن توازنات القوى ضمن الاسرة والاجهزة التي تتحكم بها اجنحتها الرئيسية، وخاصة الجناح السديري وجناح الملك عبد الله واولاده.
وهكذا يتضح:
1-      ان تعيين الامير احمد الذي كان نائبا للامير نايف كان لمدة محددة بهدف تكريمه انتظارا لانتهاء موسم الحج حيث يقوم الوزير وفق تقاليد وضعها الامير نايف باستعراض سنوي كبير لقوات الامن في مكة المكرمة.
2-      ان الامير محمد بن نايف هو من يمسك فعليا بامور وزارة الداخلية والقوات الامنية التي تعتبر ثالث قوة مسلحة منظمة في السعودية بعد الجيش والحرس الوطني اضافة الى قيادته القوات الامنية في المواجهات مع كل معارضي النظام في حين ان الامير احمد كان يتولى موقعا شرفيا في ظل الامير نايف.
3-      ان الامير محمد هو الوريث الفعلي للامير نايف في تقاسم حصص المناصب الرئيسية في المملكة والتي اضحت سياسة امر واقع تعكس موازين قوى حقيقية بين اجنحة الاسرة الحاكمة.
4-      ان القرار يعكس ضرورات الانتقال الى مرحلة الجيل الثالث من شباب الاسرة الحاكمة ولكن ضمن توزنات القوى المذكورة.هذا الانتقال اصبح استحقاقا ملزما مع تولي الامير سلمان مقاليد ولاية العهد وامكانية غياب الملك عبد الله، وبهدف تجنب صراعات مهلكة قد تفجرها مرحلة ما بعد عبد الله.
5-      ان القرار يعكس حاجة الاسرة للحفاظ على قوتها وتضامنها الداخلي في ظل التحديات الخطيرة التي تواجها السعودية داخليا واقليميا وتضعع دورها السياسي والدبلوماسي غداة ثورات الربيع العربي.
6-      ان تعيين الامير محمد بن نايف يبدو متسقا مع التوازنات الحالية داخل الاسرة حيث ضمن الملك وجود ابنه الامير متعب بن عبد عبد الله في منصب قيادة الحرس الوطني في حين اصبح الطريق سالكا الان للامير خالد بن سلطان لكي يصبح وزيرا للدفاع،  بينما اخذ اخوه بندر جزءاً مهما من نصيب جناح الامير سلطان في منصب مدير الاستخبارات.ويبقى موضوع تعين وزير خارجية جديد في ظل الظروف الصحية التي يمر بها الامير سعود الفيصل مدار تكهنات حول وضع جناح الملك فيصل خاصة في وجود الامير عبد العزيز بن عبد الله نائبا له في وزارة الخارجية.
وهكذا تكون الاجنحة الرئيسية قد ضمنت مكانة اولادها الشباب من الجيل الثالث في المواقع الاساسية في الحكم وفي امكانية جلوس احدها على العرش مستقبلا… ولكن الى حين.. اذ ان من الطبيعي ان الابواب ستبقى مشرعة امام رياح الصراعات والمنافسات والتغير خاصة في ظل معارضة واضحة او مستترة من باقي الاجنحة الاضعف في الاسرة السعودية الحاكمة.

                                                    صفوة القول
                                               مختارات من اراء وقضايا

                                 ولماذا لا يكون دستور العراق انتقاليًا؟
                                                                                         صلاح النصراوي:
نشرت في الحياة يوم 23 – 08 – 2005 
“ان البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، وهو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحال هذه مبعثرة القوى مقسمة على بعضها بعضاً، يحتاج ساستها الى أن يكونوا حكماء مدبرين، وفي الوقت عينه أقوياء، مادة ومعنى، غير مجلوبين لحساسيات أو أغراض شخصية أو طائفية أو متطرفة، يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معا، على جانب كبير من الاحترام لتقاليد الأهالي، لا ينقادون إلى تأثرات رجعية أو أفكار متطرفة تستوجب رد الفعل»… هذه كلمات للملك فيصل الأول كتبها في وصية إلى خاصته قبل وفاته بعام ونصف العام مُلخِّصًا بها تجربته في الحكم بين عامي 1921 و1933، ومعاناته المريرة وهو يحاول بناء صرح أول دولة عراقية حديثة.
وبغض النظر عما إذا كان الكيان الذي أنشأه البريطانيون لفيصل الأول أسهم هو أيضاً في الوصول إلى هذه الحال من الفشل الذريع في بناء هوية وطنية جامعة ودولة لكل مواطنيها، فمن المؤكد أن أي قارئ مطَّلع على شؤون العراق سيقف أمام كلمات الملك هذه ليقول: ما أشبه اليوم بالبارحة. وفي الحقيقة هي فعلاً كذلك، وربما هي الآن اكثر سوءاً مما كانت عليه حين دكت أسس هذه الدولة قبل اكثر من ثمانية عقود من الزمن. ولعل اكثر ما افصح عن هذه الحقيقة المؤلمة هو النقاشات والمفاوضات التي دارت حول صوغ الدستور، وكشفت عن الهوة العميقة من عدم الثقة والمخاوف وانعدام الإحساس بالأمن الذي ينتاب العراقيين ولا يزال، بعد كل هذه السنين، يقف حجر عثرة في تحولهم إلى أمة في دولة واحدة قوية البنيان.
فالآن، قد ينجح القادة السياسيون العراقيون تحت ضغوط الظروف في صوغ دستور متفق عليه في ما بينهم، إلا أن التساؤل الذي يبقى هو: إلى أي مدى سيكون في إمكان العراقيين بكل مللهم ونحلهم قادرين، على منع هذه الانقسامات من أن تنزلق بهم إلى مهاوي الصراعات والحروب الأهلية من جهة، وبناء دولة ديموقراطية تعددية موحدة تحل مكان الكيان الهش والهزيل الذي عجز طيلة هذه السنين عن صهرهم في بوتقة هوية وطنية واحدة عميقة ومتماسكة من جهة أخرى. ولأن الأمر يرتبط بوجود نخب سياسية في موقع القيادة والتوجيه، فان نقطة البداية كما أشار فيصل الأول قبل سبعين عامًا هي التساؤل عما إذا كانت النخب العراقية الحالية التي تتصدى لمشروع التغيير تتميز بالحكمة والعدل والتدبير والقوة والبعد عن الأهواء الشخصية أو الطائفية، من دون انقياد للتأثيرات الرجعية أو الأفكار المتطرفة. وهذه مؤهلات افتقدها أجدادهم الذين اشتكى منهم ملك يقول بعض الكتابات المنصفة انه كان يسعى باجتهاد وجد لبناء دولة حديثة.
ابرز، وربما ابشع، ما كشفت عنه مفاوضات الدستور هو أنها كانت تجري على خلفية طروحات تفوح منها رائحة الانتهازية المغلفة بالشعارات العصبوية الغاضبة، وحتى الشوفينية والطائفية، كما تجلت فيها نيات غير وحدوية وأحيانًا انفصالية. فعلى عكس الآمال المرجوة والتوقعات الواقعية للتجربة الجديدة لم نسمع في المعالجات المطروحة أصواتًا تنادي بالدعوة للتمسك بالهوية التاريخية المشتركة للعراقيين والأهداف التي تجمعهم وتطويرها، بل على العكس من ذلك كانت غالبية الأصوات العالية تنأى عن تدعيم الروح التكافلية المطلوبة في لحظات التحول الكبرى وعن الأرضية المشتركة التي ينبغي قيام العراق الجديد عليها. وغابت في لجة السجالات التي رافقت المفاوضات تلك اللغة التي تعكس روح الاعتدال والتسامح والمرونة والتكيف، وحلت محلها لغة شمولية وذرائعية حادة في عواطفها وانفعالاتها لا تضع أهمية لترسيخ قواعد تعايش سلوكية ديموقراطية.
فالمعروف أن كتابة الدساتير، كما توضح التجارب التاريخية الغنية للشعوب، هي عملية تعلم بالدرجة الأولى تهدف إلى أن تقوم الشعوب بصوغ قانوني للعقد الاجتماعي والسياسي الذي يربط بين مكوناتها المختلفة على قاعدة التوازن بين الصراعات والرغبات الانشقاقية من ناحية، وبين الحاجة للإجماع من ناحية ثانية. وبالنسبة للتجربة العراقية الحالية في كتابة الدستور فان هناك جانبًا مغفلاً تمامًا في هذه التجربة، وهو مشاركة العراقيين أنفسهم في كتابة أهم وثيقة في حياتهم، ما يشكل عيباً فظيعاً في العملية التعليمية التي يتطلبها تحقيق المشاركة الجماهيرية في صون العملية الديموقراطية. إذا كان الدستور كتب للناس ومن أجلهم فمن الأجدر والضروري أن يكونوا في قلب العملية، حتى يصبحوا مستعدين في نهاية المطاف لقبول الوثيقة الناتجة والمحافظة عليها أو على الأقل أن يتفهموا الأسباب التي أدت إلى صياغتها النهائية. ومع الأسف الشديد، فإن ذلك لم يتم. واقتصر الأمر برمته على تسويات أبرمت بين النخب الفئوية التي تحصنت بعدد المقاعد التي فازت بها في الانتخابات الماضية.
إن فكرة صوغ الدستور من لجنة منتخبة من الشعب فكرة جذابة ضمانًا لتحقيق مبدأ سيادة الشعب الذي يجب أن يمتلك السلطة ويخولها بعد ذلك لمن يمارسها باسمه. لكن الدستور هو في النهاية وثيقة لا تعكس فقط التجربة التاريخية لشعب ما، وإنما أيضًا روحه، ما يحتم أن يكون مختلفًا في طريقة صوغه بين شعب وأخر. وعلى هذا الأساس، فإن خصوصية الوضع العراقي الذي جرت الانتخابات في ظله كانت تتطلب منهجية وآليات مختلفة لتدوين الوثيقة الدستورية تمنح اكثر فئات الشعب وأفراده حيزًا اكبر من المشاركة ضمن الخبرة المتوفرة تفاديًا لجموح وطغيان الغالبية والتكتيكات الائتلافية الراغبة في انتزاع اكبر قدر من المزايا الفئوية على حساب تعظيم حقوق الأفراد وحرياتهم بل على حساب الدستور نفسه الذي يخشى أن يولد مفرغًا من أيّة ثقافة اندماجية وفاعلية سياسية تخفف من حدة الصراعات.
إن مصالحة الادعاءات المتضاربة وتأكيد الضمانات للحقوق والحريات التي تتمتع بها القوميات والأديان والطوائف أمر جوهري وإيجابي في كتابة أي دستور في بلد تعددي. لكن كل متابع للطريقة التي شكلت بها لجنة صوغ الدستور والمساومات التي شكلت قاعدة مناقشاتها والجدل الحامي الذي أججته لاحظ أنها أدت إلى أن تأخذ كتابة الدستور منحى أخر، منحى يضع أسسًا لترسيخ القيم التصارعية بدلاً من تعزيز التكافل والتماسك واللحمة الوطنية. وكل من تابع المناقشات التي صاحبت كتابة مسودة الدستور يدرك أن القيادات الفئوية التي قادت العملية، من دون مشاركة جماهيرية حقيقية، كانت اقرب إلى تدوين وثيقة تسويات نخبوية مرحلية وليس عقدًا سياسيًا اجتماعيًا دائمًا، الأمر الذي يهدد جوهر العملية الديموقراطية التي ينبغي أن يؤطرها دستور يحظى بالتزام شعبي واع لا لَبْسَ فيه.
لذلك، كان من الأجدر أن يكون هذا الدستور انتقاليًا يعبر عن حاجات المرحلة الانتقالية التي يمر بها العراق ويضع الأسس المتينة لإقامة العراق التعددي الديموقراطي الموحد الذي هو شعار الجميع وهدفهم الآن. فإذا كان تدوين الدستور هو عملية تثقيف من الطراز الأول، فإن اكثر ما يحتاجه العراقيون، نخبًا وجماهير، في الوقت الحالي هو التعلم… تعلم قيم الديموقراطية الحقيقية وهي الحوار والاعتدال والتسامح والمساواة وإقامة العدل والتقريب بين النسخ المتعددة للحقيقة ومصالحة التوقعات المتعارضة مع الموارد المتوفرة، على اعتبار أن كل ذلك هو مقدمة لإعادة تشكيل مجتمع سياسي افتقده العراق خلال عقود طويلة. إن العراقيين الذين عانوا سنين طويلة من عسف الأنظمة الديكتاتورية والشمولية وقساوتها هم أشد الشعوب حاجة للمرور بعملية التعلم والدستور الانتقالي وحده سيضمن إتمام العملية الضرورية هذه بسلاسة وهدوء، في انتظار الفترة التي سيتاح لهم فيها تدوين دستورهم الدائم عبر مشاركة شعبية واعية وواسعة، من دون هيمنة خيارات النخب أو خضوع للتفاعلات المرحلية أو أي نوع آخر من الضغوط.
بغض النظر عن الأساطير التي حاكها مخططو الاحتلال، فان مشروع التغير في العراق يجب أن يكون ديموقراطيًا وحداثيًا نهضوياً متجاوزاً كل التجارب التي مرت قبله، ولم لا مقدماً أيضاً، نموذجاً جديداً للبشرية في معنى التعدد داخل الوحدة. إنها حاجة عراقية قبل أي شيء أخر، لأن البدائل الأخرى كما تنذر في الأفق سيئة، بل مدمرة وكارثية. ومن المشكوك فيه الآن أن هذه النسخة من الدستور والأجواء التي أحاطت بعملية صوغها والنقاشات التي أثارتها ستؤدي إلى النتيجة المرجوة. ومن أجل ألا يقع العراق بعد خروجه من قسوة النظام الشمولي وظلمه ودمويته في براثن الفوضى والحرب الأهلية والتقسيم، يجب أن يأخذ العراقيون وقتهم الكافي لكتابة وثيقة دستورية جديرة بتضحياتهم ومعبرة عن تطلعاتهم الحقيقية، لا تطلعات النخب التي تتصدى لقيادتهم في هذه المرحلة الانتقالية الهشة السائلة المتحركة.

                                                              صفوة القول
                                                       مختارات من اراء وقضايا

                                                 أمــام العــراق فرصــة أخيــرة
                                                                                              صلاح النصراوي
نشرت في الاهرام في 2-8-2006 

تتفاقم الأوضاع الأمنية والإنسانية في العراق بشكل خطير‏,‏ حتي أصبح القول إن البلد ينحدر بسرعة نحو حرب أهلية‏,‏ هو تقرير حالة‏,‏ وليس تهويلا‏,‏ أو مبالغة يتهم بها المتشككون أو المتشائمون من نتائج العملية السياسية الجارية‏.‏ فعمليات القتل علي الهوية‏,‏ والتهجير القسري‏,‏ والتطهير الطائفي‏,‏ والهجمات المتبادلة بقذائف الكاتيوشا والهاون‏,‏ واستهداف دور العبادة والمناطق والتجمعات السكنية‏,‏ لأسباب مذهبية‏,‏ وانهيار سلطة الدولة‏,‏ وتشرذم البلد إلي أرخبيل من جزر منعزل تحكمها الميليشيات العصبوية‏,‏ كلها سمات عامة من سمات الحرب الأهلية‏,‏ كما تدل علي ذلك التجارب الأليمة التي مرت بها بعض شعوب العالم وبلدانها من قبل‏.
وإذا كان العراق يقف فعلا علي تخوم حرب طائفية‏,‏ كما هو واضح من المشهد الذي هو عليه الآن‏,‏ فإن السؤال المطروح هو‏:‏ هل ثمة فرصة بعد لكبح جماح هذا الاندفاع الجنوني نحو الهاوية الوطنية وإنقاذ العراق من مصير ليس محتما؟
ما هو مؤكد أن العراق يقف اليوم علي مفترق طرق‏.‏ وفي مثل هذه المنعطفات المصيرية التي تمر بها الشعوب‏,‏ هناك دائما إحساس غير مريح بإمكان حدوث مفاجآت غير سارة‏.‏ إلا أنه من المؤكد أيضا‏,‏ أن الفرصة لاتزال سانحة‏,‏ لكي يدرك العراقيون أن طريق الحرب الأهلية التي وضعوا فيها ليس إجباريا‏.‏ وأن بإمكانهم أن يجتازوا هذا الاختبار الشاق الذي وضعوا فيه بطريقة فاعلة‏,‏ لا توقف فقط هذا الانحدار المدمر‏,‏ بل توقظ لديهم أسباب البقاء‏,‏ كشعب ودولة‏.‏ وتجعلهم قادرين أيضا علي العيش معا كبشر ومواطنين‏,‏ ذوي هوية ومصالح وتطلعات مشتركة‏.‏ غير أن كل ذلك سيعتمد‏,‏ بالدرجة الأولي‏,‏ علي قوة الضمير الأخلاقي للقيادات التي تتولي دفة الأمور داخل العملية السياسية وخارجها‏,‏ وبراعتها السياسية‏.‏ كما سيعتمد‏,‏ ثانيا‏,‏ علي همة العراقيين وعزمهم علي استعادة الإرادة الوطنية التي دمرتها النتائج المروعة للفترة الماضية‏.‏
هناك الآن عملية سياسية جارية‏,‏ تمثل رغم الأسس الركيكة التي قامت عليها‏,‏ والعثرات التي رافقتها‏,‏ الوسيلة الوحيدة المتوافرة للخروج من المأزق الوطني الذي يمر به العراق‏,‏ ولمنع انزلاق العراقيين إلي صراع طائفي ينتهي بتقسيم بلدهم إلي كيانات تتوزع بين شيعته وسنته وعربه وأكراده وتركمانه‏.‏ وبما أن الإطار المرجعي الذي تقوم عليه هذه العملية هو اقتسام السلطة والثروة بين مكونات المجتمع العراقي الاثنية والدينية‏,‏ علي أسس المحاصصات والصفقات‏,‏ وهو الإطار الذي جوبه برفض قوي من قبل أغلبية السنة العرب‏,‏ فإن فحوي الصراع الحالي يدور حول إمكان إعادة التفاوض بشأن عملية الاقتسام هذه‏.‏ بهدف تحقيق التوازنات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية بين المكونات الثلاثة الرئيسية‏,‏ والضرورية لوضع العملية السياسية علي أسس أكثر واقعية وعدالة‏.‏ وبهدف البدء بعملية إعادة بناء الدولة والمجتمع‏,‏ اللذين تمتفكيكهما بالحرب الأمريكية التي شنت لإسقاط نظام صدام حسين‏.‏
ويوفر المشروع الذي طرحه رئيس الوزراء نوري المالكي للمصالحة والحوار الوطني‏,‏ ومؤتمر الوفاق الوطني العراقي الذي تدعو الجامعة العربية إلي عقده الشهر المقبل‏,‏ المبادرتين الوحيدتين الآن اللتين تسعيان إلي المساعدة علي الخروج من هذا المأزق الوطني‏.‏ وفي الوقت الذي يرسي مشروع المالكي قواعد أولية للحوار‏,‏ فإن الجامعة تعتمد في إنجاح مبادرتها علي حسن نيات الأطراف المشاركة في المؤتمر المزمع لإنجاح عملية الوفاق‏.‏ غير أن ما يؤخذ علي المبادرتين‏,‏ علي الأقل في المرحلة الحالية‏,‏ هو عموميات أهدافهما وافتقادهما للرؤي والاستراتيجيات‏.‏ ومن ثم الآليات المطلوبة لتنفيذ حلول وسط وتسويات منصفة وواقعية يتم الاتفاق عليها لإرضاء جميع الأطراف المتنازعة‏.‏
من الضروري أن تجري عملية الوفاق والمصالحة الوطنية علي خمسة مسارات متوازية ومتزامنة إذا ما أريد ضمان نجاحها‏:‏
‏*‏ أولا‏:‏ من المهم العمل علي تحقيق الأمن والاستقرار‏,‏ بهدف تحقيق مناخ مناسب لعملية الوفاق‏.‏ وهي مهمة تتحمل جميع الأطراف‏,‏ سواء كانت مشاركة في العملية السياسية الحالية أم خارجها‏,‏ مسئولية القيام بها وبشكل يؤدي إلي اجتثاث كل أنواع العنف ومن يقف وراءه‏.‏ يتطلب هذا الأمر من الحكومة التعجيل ببناء جيش وقوات أمن علي أسس وطنية ومهنية تأخذ علي عاتقها مهمات حفظ النظام وتطبيق القانون‏.‏ بينما يتطلب من الأطراف المتنازعة حل الميليشيات المسلحة‏,‏ وكل جماعات العنف المنظم‏.‏ ومن شأن هذه الخطوات إرساء مناخ من الأمان والثقة يشجع علي الانخراط في عملية المصالحة وإنجاحها‏.‏
‏*‏ ثانيا‏:‏ يشكل بقاء قوات الاحتلال تحديا كبيرا في وجه أي عملية مصالحة وطنية ناجحة‏.‏ مما يتطلب الاتفاق علي مستقبل وجود هذه القوات‏,‏ في إطار من الواقعية السياسية‏,‏ والحاجات الوطنية الفعلية‏,‏ خارج ثنائية الاحتلال ـ المقاومة التي استحكمت بأداء بعض الأطراف‏,‏ خاصة العربية السنية‏.‏ وجود الاحتلال هو قضية وطنية ينبغي معالجتها في إطار وطني بعيدا عن المزايدات واتهامات التخوين وعقد الصفقات معه لمنحه الفرصة للبقاء مدة أطول‏,‏ أو تغير شكله من خلال منحه رخصة للإقامة الدائمة عبر بناء قواعد ومواطئ قدم‏.‏
‏*‏ ثالثا‏:‏ من الضروري توسيع المشاركة السياسية لكي تشمل أطرافا خارج الجماعات والتشكيلات الطائفية والعرقية التي هيمنت إلي الآن علي العملية السياسية واحتكرتها‏,‏ أو تلك التي قاومتها‏.‏ وذلك من خلال ضم ممثلين عن التيار الوطني العام والمجتمع المدني‏,‏ كمشاركين حقيقيين في صياغة عقد سياسي جديد قائم علي تحقيق توازنات منصفة وواقعية بين وجهات النظر المتعددة والمصالح والآمال التي لدي كل جماعة في سياق عراق جديدد‏.‏ وفي هذا الإطار ينبغي البدء بعملية إدماج وطني علي المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية علي أساس مبدأ التنوع داخل الوحدة‏.‏
‏*‏ رابعا‏:‏ يشكل تحقيق العدل في الأوضاع الحالية‏,‏ من خلال كشف الجرائم التي ارتكبت بحق العراقيين‏,‏ سواء من قبل النظام السابق‏,‏ أو من زمر الإرهاب والعنف بعد سقوطه‏,‏ مهمة ذات أولوية قصوي‏.‏ هدفها إحقاق الحقوق وإزالة مناخ عدم الأمان والخوف‏.‏ وهي عوائق ستظل‏,‏ إذا لم تتم إزالتها بحل ما‏,‏ مانعا لتحقيق أي مصالحة ووفاق وطني‏.‏ وعلي هذا الأساس‏,‏ فإن وضع آلية عملية لتحقيق العدالة الانتقالية‏,‏ وتسليط الضوء علي إرث الانتهاكات الفظيعة التي حصلت ومعالجتها بالطريقة التي تحقق العدالة للضحايا وتغسل جراح الماضي وأحقاده وضغائنه هي مهمة ضرورية لإنجاح عملية المصالحة الوطنية‏.‏
‏*‏ خامسا‏:‏ لا يمكن لأي عملية مصالحة ناجحة أن تجري دون جهد حقيقي وسريع لإعادة البناء الاقتصادي‏.‏ من خلال آليات جديدة لتوزيع الثروة بشكل عادل ومنصف بين مناطق العراق المختلفة‏.‏ وإرجاع العراق إلي سوق اقتصادية واحدة ودفع عجلة التنمية والاستثمار بهدف القضاء علي البطالة والفقر وتوفير فرص العمل وزيادة النمو وتحقيق رخاء اقتصادي يوفر مناخا موائما للاستقرار والأمن‏,‏ ويكون سياجا ماديا حاميا للوفاق والوحدة‏.‏
هذه فترة حاسمة في تاريخ العراق‏,‏ والأشهر القليلة المقبلة ستكشف فيما إذا كان قادة الجماعات العراقية قادرين علي التعلم من أخطاء الماضي‏,‏ البعيد والقريب‏,‏ أم أنهم سيعيدون ارتكابها‏,‏ دافعين ببلدهم وشعبهم نحو حضيض حرب أهلية طاحنة‏.‏ رغم نذر الشؤم‏,‏ فإن المناخ الآن مناسب أمام كل الأطراف لمراجعة الذات والتخلي عن الأنانية والبحث عن الامتيازات من خلال لعبة السلطة المدمرة‏,‏ من أجل مصالحة الادعاءات المتضاربة والتوقعات المتعارضة وتسخير كل ذلك من أجل إعادة البناء‏.‏ وإلا فإن التاريخ سيسميهم بأشنع الأوصاف‏,‏ وسيحكم علي أفعالهم‏,‏ ليس باعتبارها أخطاء‏,‏ بل كونها أعمالا شريرة‏,‏ أدت إلي خراب العراق وانهياره‏.‏ هذه فرصة أخيرة كي يقف هؤلاء القادة أمام ضمائرهم‏,‏ وأمام برك الدم البريء‏,‏ وأمام الركام لكي يحققوا المعجزة العراقية‏,‏ أن ينهض العراق من جديد من تحت الأنقاض التي يراد دفنه تحتها‏ 

صفوة القول

                                                     صفوة القول
                                             مختارات من اراء وقضايا

                                             أمام “حماس” فرصة… وكذلك المنطقة
                                                                                       صلاح النصراوي
نشرت في الحياة في 24/2/2006

“إن اليقين هو أن الأصوات التي تغرق الإعلام في هذه الأيام باطلة، فأمام أنظارنا لا يتخلق شرق أوسط جديد فقط بل رؤية آخر الزمان أيضاً. يوجد بين محللينا من يزعمون أن الذئب يوشك أن يعاشر الكبش، وأن مواطني إسرائيل المساكين الذين كانوا يوماً أسوداً أصبحوا يأكلون التبن… كالبقر”. هذه العبارات هي لكاتب في صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية غداة فوز حماس بغالبية المقاعد في المجلس التشريعي الفلسطيني، وهي تخلص الى أن هذا الفوز سيشكل شرق أوسط جديداً سيمثل بدوره كارثة على إسرائيل وتهديداً عظيماً لها.

هل يختلف هذا الاستنتاج الإسرائيلي كثيراً عما قرأناهنحن في صحافتنا العربية أو سمعناه من محللينا الإستراتيجيين اياهم الذين انشطروا، كما هو متوقع، بين من بشر ببداية النهاية للهجمة الإمبريالية الصهيونية على يد الإسلاميين القادمين، وبين من أطلق النذير من أن نسيم الديموقراطية الذي طالما انتظرناه لم يأتِ الا بـ «تسونامي» أصولي طاغ لن يخلف وراءه الا المزيد من الحسرات وخيبات الأمل.
بلا ادنى شك جاءت نتائج الانتخابات الفلسطينية مذهلة للجميع، بمن فيهم حماس ذاتها، لكنه ذهول لا يكشف فقط عورات الأنظمة التسلطية ومدى بغض الناس لها، ولا هول الركام الهائل من الدمار السياسي والنفسي الذي ألحقه طغيانها بمجتمعاتها، ولا علاقات التبعية والموالاة التي أنتجت وأدامت ذلك، بل كشف أيضاً حجم التحديات التي تفرزها مرحلة التحولات الكبرى الجارية في المنطقة، والتي جعلت الكثيرين يخشون من أن دواء الديموقراطية الشافي الذي أنتظرته طويلاً لن يكون إلا داءً جديداً يضاف إلى عللها المزمنة. فهل أن الانتصار الإنتخابي الكاسح الذي أنجزته حماس والكسب الذي حققته قبلها حركة «الإخوان المسلمون» في مصر، وقبلهما صعود التيار الأصولي الشيعي والسني في العراق، تمثل حقاً إنتصاراً للإرادة الشعبية، أم نكوصاً وإرتداداً للحلم العربي الديموقراطي، أم أن الآمر برمته لا يعدو كونه سيراً في الإتجاه ذي الممر الواحد الذي فرضته مرحلة تحول تجيء بعد عقود طويلة من التكلس التي عاشها العالم العربي؟
يطرح فوز حماس الإكتساحي تساؤلات شتى، مع تصاعد السجالات في العالم العربي وتسارع التطورات والتفاعلات السياسية لدفع جهود الإصلاح وتعزيز الديموقراطية بهدف الخروج من حال الإستعصاء السياسي والركود التنموي والجمود الثقافي الذي يعشش في المنطقة والذي أصبح يهدد كياناتها ومستقبل وجودها. غير أن أهم هذه التساؤلات هي تلك التي تتعلق بعلاقة تنامي دور حركات الإسلام السياسي وصعودها الانتخابي في التحولات الديموقراطية الجارية، وكذلك في تأثير عملية التطور الديموقراطي المستعصية في مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلاقة هذا الزحف بالضغوط الخارجية للإصلاح في العالم العربي. ومن المؤكد أن فوز حماس مرتبط مباشرة بهذه القضايا الثلاثة.
ليست هناك أجوبة جاهزة عن هذه التساؤلات. والمرحلة التي تمر بها المنطقة، كاشفة لكنها مخاتلة أيضاً، مما يستوجب التأني والحذر من المتفائلين والمتشائمين قبل الشروع بالإحتفال أو عزف موسيقى الجنازة. فما يحدث، ومن ضمن ذلك إنتصارات الإسلاميين في الإنتخابات، ما هو الا تجليات مرحلة «الفوضى البناءة» التي وضعت فيها المنطقة بعد الحرب الأميركية على الارهاب في 2001 والحرب الأميركية الأخرى عام 2003 لإسقاط نظام صدام حسين في العراق. فما افرزته الحربان هو بداية إنهيار «الوضع القائم» الذي رسم وضع المنطقة لعقود عديدة ومهد الطريق لعملية تفكيك ومن ثم إعادة بناء من الصعب التنبؤ بالمدى الزمني الذي ستستغرقه أو طبيعة التغيرات التي ستنتج عنها.
تهدف الإستراتيجية الأميركية، المدعومة من الغرب، كما هو معلن، القيام بعملية إصلاح سياسي وتحقيق الديموقراطية في العالم العربي كوسيلة للقضاء على بؤر التطرف التي تغذي العداء للغرب وتشن حرب إرهاب عليه. وقد عبر الرئيس جورج بوش مرات عديدة عن هذا التوجه الذي شكل جوهر مبادرة الإصلاح في «الشرق الاوسط الواسع» الذي يدعو اليه. ويفترض هذا الهدف أن محاصرة التطرف والتشدد بكل أشكاله وتجفيف منابعه الفكرية والمادية، إضافة إلى نجاح العراق في إقامة نظام تعددي تشاركي، سيؤدي إلى نشر الديموقراطية في المنطقة وبالتالي الى تحصين أميركا والغرب ضد الإرهاب. الحاصل الآن هو أن خطر الإرهاب والتطرف لا يزال ماثلاً، كما أن المسافة بين العراق والديموقراطية لا تزال طويلة. وكل ما تحقق حتى الآن هو أن عملية التفكيك التي أطلقتها الحربان في المنطقة، أي الفوضى البناءة، تنذر نتائجها الأولية بصحوة جديدة لتيار الإسلام السياسي لا تتوفر أي ضمانات بعدم تحولها إلى مقدمات ليقظة بؤر تطرف جديدة، في ما يبدو مغامرة تجريبية أخرى في سلسلة التجارب التي أخضع لها العالم العربي خلال تاريخه الحديث.
فاليوم أنتجت الانتخابات العراقية وضعاً صعدت فيه الأصولية الشيعية والسنية معاً في الوقت الذي أفرز الوضع بمجمله دائرة رخوة في عموم المنطقة تتقاطع فيه الصراعات المذهبية والعرقية مع المصالح والتطلعات الاقليمية، وكلها مع الإستراتيجيات السياسية والأمنية والبترولية الدولية، لتولد بؤرة توتر قادرة على أشعال المنطقة برمتها. أما في مصر فجاء فوز الإخوان المسلمين بخُمس مقاعد البرلمان ليقرع أجراس الإنذار عن أمكان زحف الأصولية الإسلامية رويداً رويداًً نحو هدفها بإنشاء الدولة الدينية التي يخشى قيامها قطاع عريض من المصريين الرافضين أو غير المتحمسين لربط الديني بالسياسي، سواء في أجهزة الدولة أو في المجتمع وفي طبقة رجال الأعمال الذين أصبحوا يديرون دفة الإقتصاد بالإرتباط بشبكة واسعة من الإستثمارات الدولية أو الأقباط أو النساء وغيرهم. أما فوز حماس ففجر كل ينابيع القلق بشأن مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي الذي ظل طوال العقود الستة الاخيرة الصخرة التي تتحطم عليها كل احلام الديموقراطية والحرية في المنطقة.
هناك في دول أخرى في العالم العربي بؤر توترات مشابهة، بعضها ظاهر، والآخر مستتر، أفرزتها كذلك عملية فتح ملفات الإصلاح في المنطقة، والتي ستفتح معها آجلاً أو عاجلاً، الملفات نفسها التي فتحتها الانتخابات العراقية والمصرية والفلسطينية، أي علاقة الديموقراطية بالإسلام والتيارات الدينية المسيسة، الصراع العربيالإسرائيلي، العلاقة مع الآخر، والأهم الإرتباط الوثيق بين هذه الملفات بعضها بالبعض الآخر. بالتأكيد هذه الأسئلة ليست جديدة بل كانت دائماً في صميم الإشكالية التي واجهت عمليات الإصلاح في المنطقة لكن قدرها أن تقف هذه المرة أيضا أمام المرآة لتطرحها على نفسها من جديد. هل يمكن إقامة ديموقراطية حقيقية تحت عباءة نظام ديني في الوقت الذي لا يزال يخيم على المنطقة شبح التطرف والإرهاب، وهل هناك علاقة بين حل القضية الفلسطينية وإقامة الديموقراطية، وهل تنجح الديموقراطية في ظل علاقات التبعية والهيمنة التي أصبحت تربط المنطقة العاجزة والمهمشة والموبؤة بالفساد بكل أنظمتها السياسية والإقتصادية والثقافية مع المركز المتنفذ الداعي والداعم لمسيرة الإصلاح؟
تبين النتائج التي افرزتها الانتخابات الأخيرة في العراق ومصر وفلسطين أن هناك حاجة ملحة من جانب الأنظمة والحركات السياسية والإجتماعية والنخب الفكرية والثقافية النافذة في العالم العربي إلى التركيز على ما فتحته وستفتحه ملفات الإصلاح من إحتمالات ربما لم تكن في الحسبان، أو أسيء تقدير نتائجها وإنعكاساتها. فما نشاهده اليوم أن العالم العربي وضع أمام خيارين، أما الرضوخ للأمر الواقع الذي تمثله الأنظمة المتسلطة داخلياً، والقابلة بحل للصراع العربي – الإسرائيلي قائم على اساس الأرض مقابل السلام، والخاضعة للهيمنة الخارجية، مع بعض التحسينات، أو القبول بخيارات الحل الذي تطرحه الإنتخابات، وهو الأصولية الإسلامية المتسلقة فوق سلم الإنتخابات والديمقراطية مع إجندتها المتصلبة داخليا،والمتمسكة بخيار مقاومة الحل السلمي للصراع مع إسرائيل والمتشككة أو حتى المعادية للآخر، خصوصاً الأميركي والغربي المهيمن على مقدرات المنطقة.
هل العرب أذن أمام محنة جديدة جاءت بها دعوات الإصلاح؟ أغلب الظن أن تلك هي الحقيقة، فالعالم العربي يقف اليوم أمام منعطف يصعب فيه القبول بخيار العودة إلى الوراء، في الوقت الذي يكون المضي إلى أمام سيراً في طريق المجهول. ما يحصل الآن في المنطقة هو عملية كبرى، لفتح كل الدمل ونكأ الصديد المتراكم، وحتى بتر ما أستعصى على الجراحة منها، ودفعها بعد ذلك الى لعق جراحها ببطء، ثم الانتظار لرؤية ما اذا كان الشفاء ممكناًُ. ولا يقتصر الامر على العراقيين والفلسطينيين والمصريين، فالفوضى البناءة كما هو واضح تعم دول المنطقة، من محيطها إلى خليجها، وكل يقف أزاءها حسب ظروفه وأوضاعه، وهناك قواسم مشتركة يفترض أن تساعدهم على فهم التحديات وعلى مواجهتها أيضاً، وخاصة تلك التي تتعلق بأرتباط التطور الديمقراطي بالإسلام السياسي وبالصراع العربي – الأسرائيلي وبالعلاقة مع الغرب، هذا الثالوث الذي سيشكل وحتى فترة ممتدة آتية، القاعدة التي تشد اليها أي محاولة للإصلاح في العالم العربي.
وفي ظني أن المثال الفلسطيني الذي يطرحه إكتساح حركة حماس للأنتخابات هو الأكثر تمثيلا للمعضلة التي تواجها المنطقة في كيفية مواجهة مرحلة الإصلاح والإستحقاقات المترتبة عليها مثلما سيكون نجاحها هو الملهم للنجاح المرجو لها للخروج من نفق الفوضى الذي دخلت اليه. على حماس، التي شاركت الإنتخابات الفلسطينية وهي مدركة انها تقطع شوطاً طويلاً بين الجهاد لتحقيق حلم تحرير كامل الأرض من البحر إلى النهر إلى القبول بقواعد اللعبة الإنتخابية التي وفرتها اتفاقات أوسلو، أن تأخذ فرصتها، وعلى العرب أنظمة وجماعات ونخباً أن يعينوها لتتخذ قرارها الصحيح الذي ينسجم مع مصالح الشعب الفلسطيني ومصالح المنطقة وشعوبها ومع التحديات الجسام التي تواجهها. غير أن عليها أن تدرك أيضاً أنها أمام فرصة، فرصة هي إختبار لها وللمنطقة، وعليها ان تصيخ السمع خلالها لنداءات المستقبل وليس لندّابي الماضي.

                                                  صفوة القول 
                                               مختارات من اراء وقضايا 


                                         مأزق «حزب الله» ومأزق المنطقة           
                                                                     صلاح النصراوي
نشرت في الحياة  14/08/06//
تدور رحى حرب الشرق الأوسط الجديدة على جبهتها العربية تحت راية «حزب الله»، وفي ذلك دلالات أكثر من رمزية، الحرب الأولى دارت تحت رايات الأنظمة العربية والحربان اللتان تلتاها دارتا تحت راية القومية العربية بطبعتيها الناصرية والبعثية، ثم دارت حرب أخرى تحت راية ياسر عرفات التي اصطفت وراءها التيارات التي أفرزتها مرحلة انكسار المشروع القومي.
أما هذه الحرب فقد كان طبيعيا، في زمن المد الأصولي، أن تخاض تحت راية «حزب الله»، مما يطرح سؤالا عما إذا كانت دائرة الصراع الآن قد استكملت دورتها حول كل الرايات السياسية والعقائدية المرفوعة في عالمنا العربي منذ أكثر من ستين عاما، مما يفتح باب التكهنات واسعا ليس حول مستقبل هذا الصراع القاسي والمرير فقط، بل عن مستقبل المنطقة برمتها، في ما إذا أثبت واقعها المزري أنه أكثر حضورا من التوقعات، من نوع اعتبار «حزب الله»، أنه يخوض «آخر حروب إسرائيل»، والمعنى هنا واضح.
تتطلب الإجابة عن هذا السؤال ومحاولة استكشاف التوقعات الناتجة عن هذه الحرب العودة إلى شيء من تاريخ الصراع، خصوصاً ذلك الجزء الذي عايشته الأجيال العربية الحالية، وبالخصوص تلك التي تمتلك القدرة على أن تنظر إليه الآن متجردة من الافتتنان المفرط في أساطيره ومن عادة التحديق النرجسي في الصورة القومية، وكذلك من خلال الرغبة في التعلم من تجارب الماضي الأليمة بهدف إعادة اكتشاف الذات، على اعتبار أن القراءة النقدية للتاريخ هي من الضروريات الأساسية للخروج من نفق التراجيديا الكبرى الذي دخلت فيه المنطقة منذ أكثر من ستين عاماً. فالمشكلة الحقيقية في ما يحدث الآن هي أن التاريخ يعيد نفسه، كما ظل يفعل منذ ذلك الحين، بينما يغيب النقاش الجوهري باسم الضرورات المختلفة، وكأن تاريخ الصراع الطويل هو مجرد قصة من قصص النوم التي تروى للأطفال، وليس وعاء للذاكرة القومية وعملية تعلم ضرورية، يتحمل المنخرطون فيها مسؤوليتهم تجاه الحاضر والمستقبل.
لا يجادل أحد أن العرب منذ عام 1948 هم ضحايا أكبر عملية افتئات جرت في التاريخ البشري الحديث، وأن إسرائيل – مهما حاول المرء أن يزين هذه الحقيقة بدعاوى أخرى – تصرفت منذ ذلك الحين بأسلوب المنتصر، الذي يحاول أن يقهر ضحيته ويسحق كل محاولة لديها للنهوض والتحدي. غير أن الحقيقة هي أيضا أن الكارثة التي حلت على العرب يومئذ، والمستمرة لحد الآن، كانت نتيجة سلسلة من الإخفاقات والعجز والتخبط والسياسات العشوائية والتناحر وكذلك التبريرات التي تحاول أن تعفي العرب من أية مسؤولية وتلقي بتبعات هزيمتهم التاريخية على عدوهم.
ملخص القراءة المتفحصة لتاريخ الصراع منذ فوزي القاوقجي وعزالدين القسام وأمين الحسيني مروراً بنوري السعيد والملك عبدالله الاول والملك فاروق وجمال عبدالناصر وأنور السادات وصدام حسين، حتى خالد مشعل وحسن نصرالله وسائر قادة المواجهة الحاضرة، هو افتقاد العرب لرؤية واستراتيجية موحدة، الأمر الذي يعني أنهم بغض النظر عن الرواية المتداولة، لم يكونوا يحاربون إسرائيل على جبهات مختلفة، بل ومتناقضة، فقط، بل كانوا فعليا يحاربون بعضهم بعضاً.
فالحقيقة المرة أنه ومنذ الحرب الأولى والأنظمة والجماعات العربية، كانت تخوض الحروب مع إسرائيل، أو تدفع نحوها، باسم الأهداف القومية الكبرى، إلا أن الوقائع التاريخية تشير، بعد أن يجري تمحيصها وإزالة الشوائب عنها، إلى أن هذه الأنظمة والحركات كانت غالبا مدفوعة في مسعاها ذلك بمصالح خاصة وغايات قطرية أو ذاتية ضيقة، والأمر كان دائما يتعلق بالبحث عن أو ترسيخ شرعية مفقودة أو مهزوزة أو تعزيز أدوار تخبو ويعفو عليها الزمن. هذا ما حصل في الحروب الخمس الأولى على رغم كل الشعارات القومية التي غلفت الخطابات الرسمية والنخبوية السائدة يومها، والتي أنتجت بعدها سلسلة من الانقلابات العسكرية والسياسية، جاءت بالأنظمة المتتالية التي جاهدت كي تحافظ على التوازن بين متطلبات الكفاح المشترك ضد العدو الواحد، اسميا، وبين حاجات ومتطلبات البقاء، عمليا.
بعمليته التي أطلقت شرارة الحرب فإن «حزب الله» جاء يحاول القضاء على الحالة الراهنة أو كما قال قادته تدمير قواعد اللعبة التي بنيت خلال ستين عاماً من إدارة الصراع مع إسرائيل. فالحزب، من وجهة النظر هذه، هو مجرد حركة سياسية تسعى للحفاظ على شرعية ودور اكتسبته في مرحلة غابت فيها الدولة اللبنانية عن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكان ذلك مقبولا ما دام الأمر لا يتناقض مع الشرعية التي اكتسبها النظام الرسمي العربي ولا يتحدى أسلوب إدارته للصراع. إلا أن إطلاق «حزب الله» لهذه الحرب السادسة كان أكثر من محاولة لاختبار قدرة النظام العربي على التورط في حرب جديدة لم يكن مستعدا لها، بل اعتبر ما قام به مسعى لاختطاف قرار دولة عضو في هذا النظام، مما اعتبر محاولة تدمير نهائي للمنجز التاريخي الأكبر لهذا النظام.
غير أن الأمر لم يقتصر على هذا فحسب، بل إن عملية «حزب الله» هددت بتدمير النظام العربي نفسه من خلال ثلاث قضايا أساسية ارتبطت بما قام به، وهي: اولا، اعتبار الحرب التي شنها حربا بالوكالة نيابة عن أطراف بعضها غير عربي، وربما تحمل أجندات مغايرة أو حتى معادية للنظام العربي. ثانيا، أنه حزب أصولي سيسمح انتصاره في هذه الحرب بيقظة أصولية تهدف أساسا الى تحطيم هذا النظام. ثالثا، الحزب حركة شيعية قريبة من ايران وسيخلخل انتصاره، بأي شكل من الأشكال، حالة التوازن الهشة القائمة في المنطقة وينمي جملة الهواجس والمخاوف المذهبية الناتجة أساسا عن تجليات الوضع في العراق.
من هنا يأتي هذا الأحساس بأن «حزب الله» أساء في تقديراته التي قام على أساسها بتأجيج الحرب الأخيرة من دون تحليل صائب للوضع اللبناني والاقليمي والدولي الذي يقوم على حسابات سياسية واستراتيجية أعقد كثيرا من حسابات البازار وعقلية الدكاكين والثنائيات المبسطة. لم يكدر «حزب الله» الوضع الراهن ولا حاول توريط العرب بحرب جديدة فقط، بل كان خطؤه الأكبر أنه وضع العالم العربي الذي يمر بمرحلة قلقة أمام تحديات ناتجة هذه المرة عن موقف صعب يتعلق باعتبارات مذهبية ذات طبيعة جيوسياسية تمس توازنات إقليمية فائقة الحساسية. ومن الطبيعي أن تكون هناك إرادة في الصمود والمقاومة والكفاح من أجل الحقوق طالما هناك إحساس شديد بالظلم الناتج عن الاحتلال الغاشم وقهره، ومن المؤكد كذلك أن النظام العربي أثبت فشلا ذريعا في مواجهة التحدي الاسرائيلي، لكن التخبط والخطوات الأحادية وانعدام الجدية في التعامل مع الواقع وخلط الأمور تؤدي إلى المزيد من التشوهات في القضية وتعقد طرق حلها.
لقد كشفت كل حرب عربية – إسرائيلية منذ عام 1948 عن علل الأنظمة العربية الكثيرة التي كانت وراء إخفاقاتها وهزائمها، بل إنها كشفت أيضا عن العيوب التي تمتاز بها الشعوب العربية وعلى رأسها الضعف والاتكالية والاستسلام أمام الأمر الواقع، والتي جعلت من هزائمهم معا شمولية عميقة الأثر. غير أن ما يميز الحرب الجديدة هو أنها سلطت الأضواء على واحدة من أخطر العلل التي يعاني منها الجسد العربي، وهي الانقسامات المذهبية التي ظلت بعيدة عن مجرى الصراع مع إسرائيل حتى أطلت برأسها الآن بسبب التفاعلات في المنطقة الناتجة عما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية بنمو النفوذ الشيعي نتيجة تطورات الحرب في العراق.
هناك أسئلة جوهرية لا بد من طرحها ضمن إطار تحليلي لمستقبل المنطقة والتحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها إذا نجح «حزب الله» فعلاً في تغيير قواعد اللعبة فيها. ما هي القواعد الجديدة التي ينوي «حزب الله» فرضها وهل يسعى ان يكون هو فيها لاعباً رئيسياً وبالطريقة نفسها التي يدير بها قواعد لعبته في لبنان، أي اختطاف قرار الدولة، والانفراد باتخاذ القرار الاستراتيجي، والهيمنة على باقي القوى السياسية في البلاد؟ ما هو مستقبل علاقة «حزب الله» الاستراتيجية مع إيران في الوقت الذي ترى فيه بعض الدول العربية أن إيران التي تسعى لاستخدام أزمتها النووية مع الغرب لتعزيز موقعها الإقليمي تشكل أيضا تهديداً خطيراً للأمن القومي العربي؟
كان على «حزب الله» أن يدرك الإشارات العديدة التي أطلقها قادة في المنطقة منذ الحرب الأميركية على العراق عام 2003 حول الدور الشيعي المتصاعد والمخاوف من تنامي العلاقات بين الشيعة العرب وإيران وفي ظل الطموحات الإيرانية المتصاعدة في المنطقة. كان عليه ان يدرك أيضا أنه في ظل الدعوات المتجددة لبناء شرق أوسط جديد فان لبنان بتجربته التاريخية، ورغم عثراتها، لا يزال يقدم نموذجا جيدا للتعايش بين المذاهب والطوائف والأديان، وهي تجربة لا ينبغي تدميرها بل صقلها وتنميتها لكي تقدم لباقي دول المنطقة. كما كان على «حزب الله» أن يدرك كذلك أن العمل، في هذه المرحلة البالغة الخطورة، على إعادة تأصيل التشيع العربي، كعنصر تاريخي وروحي وثقافي أساسي في المنطقة هو أهم بكثير من تحقيق أهداف جزئية في مجرى الصراع الجاري في المنطقة وعليها.
ها هو تاريخ المنطقة إذن يعيد نفسه، ولكنه يعيده، كما في كل مرة، تراجيديا، وبغض النظر عن الرايات التي تخفق فوقها. قد يكون «حزب الله» في مأزق، نتيجة رد الفعل غير المتوقع لإسرائيل، كما أقر قادته، ولكن المنطقة كلها في مأزق دائم. هل هناك ديناميكية خفية، كما كان يسأل إدوارد سعيد، نقوم من خلالها بتكرار أخطائنا وكوارثنا من دون أن نتعلم من ماضينا أو حتى نتذكره؟ لقد انتجت حرب الـ1948 خريطة جديدة للمنطقة، وها هي حرب الـ2006 تبشر بشرق أوسط جديد. إننا دائما، حسب سعيد، عند نقطة البداية نبحث عن حل «الآن»، حتى لو كان هذا «الآن» يحمل كل علامات ضعفنا التاريخي ومعاناتنا الإنسانية.

Analysis & views from the Middle East