صفوة القول
                                      مختارات من اراء وقضايا

                           اللحظة الكردية ومستقبل العراق … وفاق أم طلاق؟
                                                                                       صلاح النصراوي
نشرت في جريدة الحياة 29 -4-2007
عدت لتوي من اربيل بعد نحو ثمانية عشر عاماً من آخر زيارة لها، جرت خلالها مياه كثيرة، سواء في أنهر كردستان، أم أنهر العراق المتدفقة احداثا جارفة، اغلبها مصبوغ بالدم والدموع، والقليل منها، يحمل قشا للامل واطواقا للنجاة. في زيارتي السابقة كانت اربيل، شأنها شأن باقي المدن الكردية العراقية، تئن تحت آلام حلبجة والانفال، آخر تلك الحملات السيئة السمعة، لنظام صدام حسين البعثي الفاشي، والتي كشفت ايضاً عن تواطؤ بعض العراقيين والعرب، الذين غطوا اعينهم عن تلك الاعمال المشينة، او فضلوا الصمت والنظر الى الجهة الاخرى.
فرق هائل بين اربيل، المتطلعة يومئذ للحكم الذاتي الحقيقي، والمستسلمة للظلم والخوف والاذعان، رغبة في صيانة اسباب البقاء، واربيل اليوم، الناهضة والجامحة، التي لا تطرح نفسها عاصمة لإقليم كردستان العراقي الفيديرالي فحسب، بل القلب النابض للأمة الكردية بأسرها.
في اربيل اليوم، كما في باقي مدن الاقليم، بإمكان المرء ان يدرك بسهولة ذلك الإيقاع الجديد الذي ينمو على رنينه عالم اسطوري من التطلعات والأماني، إذ يشعر أكراد العراق انهم قبضوا بأيديهم للمرة الأولى على تلك اللحظة الخاطفة في التاريخ، التي بإمكانها ان تحولهم الى فاعلين اساسيين في تقرير مصيرهم، بعد سنين طويلة من التهميش والحرمان والشقاء والكفاح.
لا يساور المرء ادنى شك وهو في اربيل، ان الاكراد لا ينفضون عن انفسهم سنوات القهر، ويتطلعون الى المساواة مع باقي العراقيين والشعوب الاخرى فقط، بل انهم يظهرون ثباتا لا يتزعزع، وتوقا لا يستكين، لإسقاط كل جدران العزلة التاريخية والجغرافية الاستثنائية التي ضربت حولهم لقرون عديدة. ما يجري في اربيل ليس فقط عملية دؤوبة لفتح ثغرات في تلك الجدران، بل هي تحقيق لجزء من طموحات الاكراد لإنجاز مشروعهم القومي في كردستان الكبرى. اي بعبارة اخرى، في اربيل اليوم يصنع تاريخ جديد للاكراد، وبالتالي للعراق وايضا للمنطقة، ما يقتضي تسليط الأنظار على ما يجري هناك بتفحص موضوعي، بعيداً عن التعصب والتهييج وايضا اللامبالاة.
ففي اربيل لا يمكن ان يشعر المرء بأنه في مدينة هي بحاجة بعد الآن الى ان تضع رأسها ليستقر من جديد في حضن وطن اسمه العراق، بل هي تسعى جاهدة لكي تكون حضناً دافئاً لأكراد العراق، ومهدا لأحلام وتطلعات الملايين في الأمة الكردية الذين ينتشرون في كردستان الشرقية، في إيران، والشمالية، في تركيا، والغربية، في سورية. هذه حقيقة قائمة لا يمكن ان تحجبها عن ابصارنا الصلة السياسية والدستورية الواهية التي تربط كردستان ببغداد، كما تجسدها مفردات وقائع كثيرة على الارض، مثلما يجسدها الخطاب السياسي والثقافي للقيادات والنخب الكردية والمشاعر والقناعات التي يعبر عنها الشارع الكردي. في اربيل لا يشعر المرء بأن الكردي يرى ما يغريه في البقاء في العراق غير بعض الحوافز الاقتصادية، ونكاد نرى بوضوح اولى المحاولات التي يخوضها الاكراد لبناء كيانهم القومي الواسع، وهي محاولات لا يخفونها ابدا، بل يدعون الآخرين بصمت احيانا، وباندفاع عالي النبرة، احيانا اخرى، الى التأمل فيها وحسبان حسابها المستقبلي.
هناك دائما مخاطر من ان المعاناة الإنسانية يمكن ان تنتج ردود افعال تتسم بالإفراط والمبالغة من قبل اولئك الذين عانوا، ربما يمكن فهمها في اطار الاحباطات من ظلم تاريخي، او من غياب التضامن، او نقصه، ولكنها تنحو نحو التعسف، حين تضل طريقها في السياق الجديد، فتتجاوز الى شعور الضحايا السابقين بأن من واجب الاخرين ان يرفعوهم الى مرتبة القداسة وان من حقهم ان يُمنحوا عفواً خاصاً طالما انهم عانوا كثيرا من السياق القديم. لقد عبرت جماعات بشرية كثيرة عبر التاريخ الإنساني عن مثل هذه المشاعر من الخشية والقلق، ووصلت احيانا الى تأجيج نيران الحقد تجاه من يرونهم متربصين بنجاحهم. وبالإمكان تعداد الكثير من هذه التجارب، لكن التجربة الإنسانية اثبتت ايضا خطأ الإسراع في حرق المراحل، وخطر القفز على الواقع، ومحاولة فرض المطالب والسعي للحصول على الكثير في القريب العاجل، من دون اكتراث بالعوامل الموضوعية والإمكانات المتاحة والحاجة الأكيدة لشركاء حقيقيين.
من هنا يمكن فهم الحالة الكردية الراهنة، كما تمثلها اربيل، التي تبدو لأي مدقق، انها تجتاز حالة تحول من طراز المخاضات الكبرى، التي تمر بها أية أمة على طريق بناء دولتها القومية، عبر التأسيس لنواتها التاريخية. ان حق الاكراد في تقرير المصير وانشاء دولة مستقلة بدءا من كردستان العراق، او كردستان الجنوبية كما يرونها، هو حق انساني وسياسي اصيل لهم، اسوة بكل الشعوب، غير ان هناك سؤالين يلحان الآن، اولهما، هو ما اذا كان المسعى الكردي في هذا الاتجاه، القائم على تراكم الانجازات الكردية في العراق والنحت الجيوبولتيكي في باقي دول الشتات الكردي هو عمل مدروس، ام انه مغامرة غير محسوبة النتائج، قد توجه ضربة اخرى للحلم الكردي المؤجل منذ اكثر من ثمانين عاما. هذا السؤال يخص الاكراد وعليهم الإجابة عليه، اما السؤال الثاني فهو عن الخيارات التي ينبغي على عرب العراق اتخاذها الآن تجنبا للأكلاف الباهظة التي يدفعونها وسيدفعونها في المستقبل حين يتجسد المشروع الكردي في الاستقلال.
سيكون نوعاً من انواع التعالي القومي، وربما الشوفينية ايضاً، مساءلة الاكراد في حقهم في تقرير مصيرهم، حتى اذا كان الامر يتضمن رغبة في الاستقلال، ما دام الامر نتيجة لرغبتهم وارادتهم الحرة، وبغض النظر عما اذا كان ما يجري الآن هو نتيجة صيرورة ذاتية تلقائية ام تغيرات واعية، ومهما كانت تبعات ذلك عليهم نتيجة التحديات والتهديدات التي تواجه مشروعهم القومي. لكن سيكون من الحماقة السياسية وقلة الحيلة ان يظل عرب العراق يدفعون ثمن شراكة غير متحققة، وارتباط واهٍ، ورغبات غير دفينة في الانفصال، اما لاعتبارات وطنية عاطفية تآكلت، وصلات تاريخية لم تعد متوفرة، بفعل التغيرات الهائلة التي أفرزها الاحتلال وما تبعه من انهيار الدولة العراقية، أو لعوامل امنية واستراتيجية اقليمية، لا دخل او لا إمكانية لهم، في ادارتها. هذا الأمر يتطلب التمعن جليا في ما يجري على مستوى العلاقة بين العراقيين من العرب والاكراد والتوصل الى الخيارات المناسبة، وفق دراسة جدوى حقيقية، واتخاذ القرار المناسب والصحيح وطنيا وسياسيا واستراتيجيا.
طبعاً، كل شيء سيبقى رهنا باستقرار الوضع الأمني وبنتائج العملية السياسية الحالية واذا ما كانت ستصل بالنتيجة الى مصالحة وطنية شاملة ترسي قواعد لاعادة بناء الدولة العراقية الموحدة على اسس متفق عليها بين جميع مكونات الشعب العراقي أم لا. هناك صعوبة في تصور الوصول الى مثل هذه النتيجة من دون اعادة التفاوض حول صيغة الفيديرالية التي لا تزال الاطراف الرافضة للعملية ترى انها اقرت في ظروف استثنائية، ومن دون مشاركة حقيقية من العراقيين جميعاً. على الجانب الآخر، فإن اعادة النظر في شروط الفيديرالية وحدودها ستكون امراً مثبطاً للاكراد الذين يعملون منذ سنين تحت حدود سقف عالٍ للفيديرالية، يقترب من حدود الاستقلال. ومن البديهي ان الفشل في الوصول الى صيغ جديدة سيطرح بديلاً وحيداً، وهو القبول رسمياً، باستقلال كردستان، المستقلة نظريا، باعتباره الحل الأقل كلفة للعراقيين العرب.
ادرك ان القضية المطروحة تحتوي على شحنات وجدانية قوية، والكثير من الالتزامات، عند الطرفين العربي والكردي، غير ان الأمر يجب ان يطرح بجرأة ومن دون مواربة، ما دام يتعلق بمصير بلد وشعب، بل مصير المنطقة برمتها، ومن غير المجدي دفن الرؤوس في الرمال او الرهان على المستقبل لإيجاد حلول لها. لقد كشفت قضية كركوك عن جزء يسير من العقدة، سواء على المستوى الداخلي العراقي، او على المستوى الاقليمي، كما ان الاتهامات التركية بشأن نشاطات حزب العمال الكردستاني، وردود القيادات الكردية العراقية عليها، اظهرت الطابع الصراعي للقضية الكردية على المستوى الاقليمي، الذي من المؤكد انه يمكن أن يفجر نزاعات اكبر في المستقبل، بسبب البؤرة التي سيشكلها استقلال الاكراد في العراق، سواء شكلياً او حقيقياً، على باقي دول الشتات الكردي. والسؤال الذي يواجه العراق العربي هو اين تكمن مصلحته الحقيقية؟ هل في اتحاد فيديرالي ضعيف، يتحمل هو كلفة ادامته اقتصاديا، وتوفير مظلة حماية له، في وجه التحديات التي تواجهه من دول المنطقة، ام في قطع الشوط الاخير والقبول باستقلال الاكراد الفعلي في دولة يديرونها حسب مشيئتهم ومصالحهم القومية، ما دام ذلك طموحهم النهائي؟
لقد انهكت القضية الكردية العراق عبر تاريخه الحديث، وخسر العراقيون، عرباً وأكراداً، فرصاً كثيرة في حلها بطرق سلمية، تحقق العدالة والمساواة والاستقرار والازدهار للشعبين، كما ان خيار الفيديرالية، الذي اتخذ في عجالة وفي ظروف الاقتتال الداخلي، وفي نتائجه العملية على الارض، لا يبدو قادراً على تحقيق هوية وطنية مشتركة وفاعلة في ظل هواجس ومخاوف وتطلعات متباينة عند الجانبين. هناك حقيقتان على العرب العراقيين ان يدركوهما، اولاهما ان الاكراد امسكوا بلحظتهم التاريخية، وان كردستان اصبحت مستقلة فعليا، وان الإعلان الرسمي عن ذلك مناط باللحظة التي سينهار فيها العراق كدولة، اذا استمر الصراع الشيعي – السني، والثانية ان تطلعات الاكراد هي صوب بني جلدتهم في الشمال والشرق والغرب الكردي وليس نحو الجنوب العربي. كل الأطراف العراقية، وكذلك الاقليمية، تدرك هذه الحقيقة، ولكنها تقف عاجزة امام هذا الوضع، إنه أشبه بوضع رجل ينام كل ليلة مع امرأة تريد تطليقه عند الصباح، ولكنها تؤجل ذلك لليوم التالي.

                                                         صفوة القول
                                            مختارات من اراء وقضايا  
                                                        عراق فوق الأنقاض
                                                                              صلاح النصراوي
نشرت في الشرق الاوسط في   22 مارس 2008
كانت محنة إنسانية ووطنية قاسية تلك التي واجهها العراقيون قبل خمس سنوات حيث كانت الإدارة الأمريكية تستعد لشن الحرب على بلادهم وحين واجههم السؤال المضني، أين سيقفون هذه المرة، خاصة أن الهدف كان جلياً، وهو إسقاط نظام صدام حسين. شخصياً، رأيت في الحرب فرصة وحيدة للتخلص من ذلك النظام الشمولي، الذي جثم على صدور العراقيين خمسة وثلاثين عاماً، آحال حياتهم خلالها إلى جحيم لا يطاق من القهر والعذابات والإذلال، نادراً ما تحملها شعب من شعوب العالم في النصف الآخير من القرن العشرين. كانت الحرب تبدو فرصة لنبذ كل ذلك الماضي التعيس، ومن ثم البدء من جديد في بناء عراق آخر، عراق قائم على أسس من الحرية والعدالة والإنصاف، ولم لا، ديمقراطي وحداثي، بل ونموذج مشع للدولة المدنية في المنطقة، أيضاً.
كان ذلك الاستنتاج، والأمل بالنسبة لي ولأي فرد عراقي شاركني فيه، في غاية البساطة والبراءة والإنسانية، ولم يكن بحاجة لكي نصل اليه، إلى أية حسابات سياسية أو استراتيجية أو حذلقات ايديولوجية أو تبريرات فلسفية. كما لم يكن ذلك الموقف متناقضاً أبداً، كما أرى حتى الآن، مع الروح الوطنية ومعاني الكرامة الإنسانية التي ظل نظام صدام ينتهكها حتى اللحظات الأخيرة من عمره، حين وضع العراقيين جميعاً أمام محنة الاختيار القاسي، بين الدفاع عنه وعن نظام حكم العائلة والعشيرة الذي أقامه، وبين الوقوع في ذل الاحتلال وقهره، كثمن للتخلص منه.
فالأمر كان بكل بساطة، حلما إنسانيا متواضعا ومشروعا تطلع فيه العراقيون إلى العالم ليمد يده لإنقاذهم من ذلك الجحيم الأبدي، الذي عاشوا فيه، بدون أية بارقة أمل في أن يعمل نظام صدام على إصلاح نفسه، أو أن يتمكن العراقيون أنفسهم ذات يوم من أن يتخلصوا منه بإيديهم، ومن خلال مشروع وطني للتغير. كان ذلك الاستنتاج هو بمثابة انتظار لاستجابة القدر، ولذلك النداء الداخلي لدى كل عراقي، وحمله لإرادة الحياة، وحلمه الأزلي، بكل ما يمكن ان يجلي الليالي الظلماء عن بلاده، ويكسر قيود الذل والاستعباد التي كبلها بهم صدام ونظامه.
كان الأفق مسدوداً أمام أية عملية تغير ذاتي، أو إصلاح داخلي، لأن النظام كان يدرك أن بنيته الأمنية والسياسية والايديولوجية، القائمة على الكبت والقمع وعلى عبادة الشخصية، وصنمها الآبدي صدام، ستكون معرضة لخطر الانهيار مع أول بادرة انفتاح، مهما كانت ضيئلة. فلم تكن هناك أية قوة معارضة سياسية داخلية حقيقية بإمكانها أن تقف أمام النظام وتجهر بصوتها بأي مطلب سياسي، أو حتى إنساني، بعد أن عمل النظام على التصفية المادية والمعنوية للأحزاب والجماعات السياسية.
ولم تكن المعارضة في الخارج بحال أفضل، فقد تحولت أغلبها بسبب هيمنة الجماعات ذاتها التي عجزت عن التصدي لنظام البعث داخليا، وتفضيلها خيار التحول إلى ضحية على خيار البقاء والصمود والمقاومة، وبسبب العقلية التسلطية التي تديرها أيضا، إلى مشروعات فردية أو عائلية ودكاكين تشرف عليها أجهزة مخابرات الدول التي تستضيفها، وتوجهها حسب غاياتها ومصالحها.
اما التطلع لأي عون عربي للتخلص من صدام ومساعدة العراقيين على إقامة نظام ديمقراطي، فكان مجرد سراب وعبث، ليس فقط لأن فاقد الشيء لا يعطيه، بل لأن النظام العربي ذاته قائمُ على تضامن دوله وحكوماته وزعاماته على قاعدة أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، طالما أنه لا يهدد بقاءك، أو، على العكس، أن زواله سيهدد ذلك البقاء.
كان بقاء نظام صدام بالرغم من الكوارث التي ألحقها بالعراق يعني انتصاره على العراقيين وعلى رغبتهم في الحياة الحرة الكريمة، واستمرار ذلهم وقهرهم وقتلهم سنوات طويلة اخرى، مع احتمال شبه أكيد، بان ينتقل الحكم بعد ذلك من صدام إلى أحد ولديه عدي أو قصي، أي بمعنى آخر أن يبقى العراقيون عبيداً أذلاء لذرية الطاغية، ومن أشباهه من السفاحين والمغامرين عديمي الإحساس والضمير، واحداً وراء آخر، بدون أي أفق بانتهاء هذه السلسلة من الطغاة التي كانت تعمل وتخطط للبقاء إلى ما لا نهاية.
ولم تكشف تلك المرحلة عن أزمة وطنية شاملة والمتمثلة بحالة إنسداد في الأفق السياسي للنظام فقط، بل أنها كشفت عن العمق الذي وصلت إليه الأزمة البنيوية للدولة ذاتها من خلال وصولها إلى أقصى حالات التماهي مع النظام، بل مع الفرد الحاكم ذاته. ومع ارتباط الأزمة الداخلية بالتوترات والصراعات مع المجتمع الدولي، بسبب إرث المغامرات والحروب التي خاضها النظام مع جيرانه، فقد فقدت الدولة والمجتمع في العراق أية حصانة وقدرة على الصمود بوجه التحديات الداخلية والخارجية معا، الامر الذي كان سيسهل بالنهاية سقوط النظام بالحرب التي كانت على الأبواب.
غير أن الأمر لم يكن كله أحلاما وآمالا، بل كانت هناك أيضا شكوك وهواجس ومخاوف تحوم وتدفع للظن بان الأمر قد لا ينتهي بما يتمناه العراقيون وكذلك خشية حقيقية من أن تشهد لحظات ما بعد ولادة عراق جديد محاولات لوأده، أو حتى أن يكون الحمل نفسه كاذبا. كانت الشكوك نحو الأمريكان نابعة، أولاً، من أن امريكا ليست جمعية خيرية جاءت لمساعدة العراقيين بتحريرهم من صدام، ولا بد أن لها مصالح وأهدافا قد تكون مناقضة للحلم العراقي. وكان واضحاً، ثانياً، مما كشف عنه من نقاب عن الخطط والاستراتيجية الأمريكية وأسلوب تنفيذها، أن الإدارة الامريكية عازمة على خوض مغامرة كبيرة، بدون أي استعداد جدي لإعادة بناء الدولة، بل بدون فهم حقيقي للواقع العراقي.
ثم كانت هناك شكوك في قوى المعارضة العراقية التي استجلبتها الإدارة الأمريكية لتبرير الاحتلال والمشاركة في إدارته. ففي غياب معارضة سياسية تمثيلية حقيقية على الأرض، يمكنها أن تكون بديلا مقبولاً، أو حتى معقولاً، في فترة انتقالية يجري خلالها بناء الحركات السياسية المعبرة عن الطبقات والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغير ومن ثم الإعداد للمرحلة الدائمة، كانت تلك القوى بكل ماضيها وخيارتها وأجنداتها، وخاصة الطائفية والفئوية، هي الوحيدة التي بإمكانها أن تتصدر الساحة بوجه تيار وطني عام لم يتسن له النهوض بعد.
مقابل ذلك كانت الشكوك تحوم أيضا حول رد الفعل المتوقع للدول الإقليمية، وخاصة المجاورة للعراق، من عملية التغيير القادمة، وهي التي كانت تستشعر مدى الخطر الكامن في ذلك على أمنها واستقرارها، بل على وجود أنظمتها ذاتها. فحين أصبح واضحا أن الإدارة الأمريكية اتخذت قرار الحرب لم يكن أمام هذه الدول إلا القبول به أيضا، سواء على مضض، أو كرها، غير أن السؤال ظل، هو كيف كانت ستتعامل هذه الدول مع نتائج الحرب المتوقعة، مع كل ما تحمله من توقعات سيئة وكارثية على عموم المنطقة الهشة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والتحديات التي سيفرزها التغير الجيوسياسي والجيواستراتيجي الذي سيحصل.
في كتابي الأخير «فوق الانقاض، نهاية المشروع الأمريكي في العراق» الذي يصدر متزامنا مع الذكرى الخامسة للحرب حاولت أن أعود إلى حكاية ذلك الحلم المليء بالبراءة وكيف انه سرعان ما تحول إلى كابوس مرعب، عبر المرور بالمحطات التي قطعها مشروع الحرب وما آل اليه مشروع التغير في العراق، الذي بشرت به إدارة بوش إلى مجرد غزو واحتلال قميئين وأطلال مجتمع ودولة يعشش في خرائبها الإرهاب والعنف والفساد وتفوح من زراريبها رائحة الدم وعفن التعصب الطائفي والكراهية. النقطة الجوهرية التي يحاول الكتاب تركيز الأنظار عليها، هي كيف أن العراقيين الذين ظلوا يتشبثون بالأمل للخلاص من واقعهم المآساوي وقعوا ضحية لعملية خداع كبرى، كانت نتاج مزيج من الحماقة وغطرسة القوة والأحلام الإمبراطورية، والنبوءات الخرافية، إضافة إلى المؤامرات الدنيئة، والصفقات الخسيسة، ورغبات دفينة بالثأر، وطموحات مرضية، رافقها تواطؤ مخزٍ وجبن لا أخلاقي نادر وصمت عاجز، حيث اجتمع كل ذلك ليخلق مأساة أكثر رعبا مما أنتجه القهر الصدامي. ليس للعراقيين، وانا واحد منهم، ان يعتذروا لأنفسهم الآن عن تلك الأحلام البريئة، التي تحولت إلى أوهام، لمجرد أنهم ظنوا في ساعة المحنة تلك أن هناك في هذا العالم بقية من رحمة وتعاطف وضمير وأن هناك من سيساعدهم من أبناء جلدتهم على الخروج من تلك الدائرة الشاذة من تاريخهم الحديث، بل عليهم وهم يمرون بهذه الأيام الحالكة من تاريخهم أن يقفوا ويتمعنوا في درس التجربة ويخلصوا إلى أنهم وحدهم القادرون على الخروج من نفق الأزمة الوطنية المريرة، وانهم محكومون بالعيش معا، وأن الفراق بينهم ليس قدراً محتماً، إذا ما توفرت الفرصة لإعادة اكتشاف ماضيهم المشترك وتصويب أخطاء حاضرهم والانشغال ببناء مستقبلهم.
قد لا يصبح ذلك ممكنا بدون ان تقف الأطراف الأمريكية والعراقية وغيرهم من الذين شاركوا في قتل الحلم وصنع الكارثة العراقية أمام محاكم قانونية، او حتى اعتبارية، لكي ينالوا جزاءهم العادل، مثلما ناله صدام نفسه، عما اقترفت أياديهم وأفكارهم الشريرة بحق الملايين من الأبرياء العراقيين. إن العبر من تجربة صدام لم تتجسد في تلك الزنزانة القميئة التي شهدت نهايته، بل في التراب الذي سيظل التاريخ يهيله على تجربته البشعة، وهي عبر لا يبدو أن الكثيرين، سواء من أعدائه وخصومه الذين ظنوا أنهم ورثته، أو من الآخرين الذين أوغلوا أياديهم، كل لحساباته، في دم العراقيين، وخراب بلدهم، قد تعلموها.

                           في الصميم
                       تحليلات ومتابعات
        الغاء بغداد لصفقة السلاح مع روسيا يوجه الانظار نحو نفط كردستان
                                                               صلاح النصراوي
يبدو قرار حكومة نوري المالكي بالغاء صفقة شراء الاسلحة مع روسيا للوهلة الاولى وكأنه يرتبط بالاشتباه بقضية فساد كما نقلت وكالات الانباء عن المتحدث باسم الحكومة علي الموسوي وفي ضوء تقارير اشارت الى اعتراضات قدمتها لجنة النزاهة البرلمانية ضد العقد مع موسكو.
غير ان المتابعة الدقيقة والاعمق للوقائع المتعلقة بالعقد الذي تبلغ قيمته اكثر من 4 بليون دولار والذي اشرف على توقيعه المالكي بنفسه اثناء زيارته لموسكو الشهر الماضي تشير الى سبب مباشر اخر اضافة الى اتهامات الفساد التي شابت العقد والموجهة الى جهات روسية وعراقية عديدة ومافيات تجارة السلاح الدولية.
من الضروري اولاً الاشارة الى ان تصريح الموسوي اكد على ان العراق الغى العرض لكنه يعتزم اعادة التفاوض من اجل التوصل الى عقود جديدة مع روسيا في ضوء ما سماه بحاجة العراق القائمة للسلاحأ اي انه بغداد تبقي الباب مواربا بانتظار انجلاء الموقف.
ما يتعلق بالفساد والعمولات التي شابت الصفقة تناولته اطراف ووسائل اعلام عراقية اشارت الى تورط جهات داخل مكتب المالكي ووزارة الدفاع العراقية ومسؤولين في مصرف التجارة العراقي ووسطاء من تجار السلاح بعضهم معروفين جيدا في المنطقة.
على الجانب الروسي ايضا يبدو كما اشارت تقارير صحفية ودبلوماسية في موسكو الى وجود رابط بين القرار العراقي وقرار الرئيس فلادمير بوتين باقالة وزير الدفاع اناتولي سيرديوكوف بعد اسبوعين من بدء التحقيق الجنائي في قضايا فساد داخل المؤسسات الصناعية الحربية الروسية.
المطلعون والعارفون باوضاع العراق وروسيا يدركون ان لا جديد في قضايا الفساد في البلدين وان باستطاعة الطرفين تجاوز الموضوع لو كان مجرد رشاوي وعمولات وسمسرة وان القصة الحقيقة وراء التطور الجديد تتعلق بموضوع اكثر اهمية يرتبط بتطورات سياسة وجيبوليتكية تتفاعل في الشرق الاوسط وتضع روسيا في خضم الصراع مع الولايات المتحدة على المنطقة.
لذلك فمن الضروري ان يتم النظر بشكل اساسي الى الاوضاع في كل من سوريا، ايران، الخليج، تركيا، كردستان العراق مع تركيز على ملف الاستثمارات البترولية في العراق وبالذات في المنطقة الكردية التي يجري بشأنها صراع شرس اطرافه الحكومة المركزية في بغداد وحكومة اقليم كردستان.
صفقة السلاح مع روسيا كشفت للطرفين بانها انطوت على استعجال وعدم دراسة متأنية لشبكة المشكلات المعقدة في المنطقة كما انها فتحت الباب امام صفقات اكبر بين القوى الاقليمة والدولية وهي سبب مباشر لتعطيلها حاليا.
فاذا كانت الصفقة، حين تتم، ستفتح الابواب امام نوع من التحالف الروسي الايراني السوري والحكومة التي يقودها الشيعة في بغداد، كما سارت التحليلات، فان من المتوقع ان يلقى ذلك نوع من رد الفعل المقاوم من تحالف اخر في المنطقة يضم اطراف اقليمية على رأسها تركيا ودول الخليج تجتمع ايضا مع الولايات المتحدة الامريكية في الموقف ازاء ايران وسوريا وبالنتيجة روسيا.
هناك تفاصيل عديدة تتعلق بكيفية تأثير شراء الاسلحة الروسية على هذا الاستقطاب جميعها تضع العراق في بؤرة الصراع الذي يمكن ان ينشب بين جميع هذه الاطراف، فيما اذا تمت الصفقة فعليا، يبدو ان حكومة المالكي كانت جاهلة بها بقدر جهلها باستراتيجيات الدول الكبرى وبمكيانزمات صفقات الاسلحة.
ما يبنغي النظر اليه كذلك هو العقود النفطية التي وقعتها شركة غاز بروم للطاقة الروسية مع حكومة اقليم كردستان والتي لا يبدو ان روسيا اصبحت تكترث كثيرا بالتهديدات العراقية بالغائها اسوة بما تفعله الشركات الامريكية والاوربية التي وقعت عقود مماثلة.
من المهم ايضا النظر كذلك بالتقارير التي تشير الى علاقة وزير الدفاع الروسي المقال سيرديوكوف بشركة غازبروم حيث انه متزوج من ابنة فكتور زبكووف احد اخلص الاعوان لبوتين ورئيس شركة غازبروم.
ما تكشف عنه الصفقة والغاؤها هو دور البترول في كردستان ودور الاقليم الكردي العراقي ذاته الذي رفض بشدة صفقة الاسلحة الروسية والذي يصبح شيئا فشيئا في قلب الصراعات في المنطقة وهو المكان الذي يجب ان تتوجه اليه الانظار مستقبلا.
—-
                في الصميم …  تحليلات ومتابعات
                   
البحرين:اسقاط الجنسية يعكس استمرار الخيار الامني في مواجهة الحراك الديمقراطي
                                                    صلاح النصراوي
قرار حكومة البحرين باسقاط الجنسية عن عدد من مواطنيها تعسفي وظالم من وجهة النظر القانونية وهو ما تكفلت منظمات حقوق الانسان بادانته، ولكنه من الناحية السياسة خطوة في الاتجاه الخاطئ وفي غاية الخطورة تعكس مدى التهور لدى صانعي القرار واصرارهم على خوض معركة خاسرة بدل الاستجابة للمطالب المشروعة للمنادين بالاصلاح والتغير والديمقراطية في البحرين ولرياح الحرية التي اطلقها الربيع العربي.
هنا بعض الاستنتاجات بشأن الخطوة التي من المتوقع ان تتبعها ارتدادات دولية واقلمية ومحلية.
اولا على المستوى الدولي والاقليمي:
-ان الخطوة تعتبر انتهاكا صارخا للاتفاقيات والاعراف الدولية الخاصة بالقانون الدولي الانساني وخاصة الاعلان العالمي لحقوق الانسان وبالذات مادته الخامسة عشر التي تنص على حق كل شخص بالجنسية” و”الا يتم حرمانه من الجنسية او من حقه في تغيرها.”
-انها ستحرج اصدقاء النظام البحريني في الغرب الذين يغضون النظر منذ بدء حركة الاحتجاجات قبل نحو عامين وستفضح الازدواجية التي يتعاملون بها مع ثورات الربيع العربي.كما انها من الناحية السياسية فاجئتهم وستضعهم امام خيارات ليست يسيرة في حالة تصاعد الاحتجاجات بسبب القرار.
-انها ستثير احتمالات ان تشجع باقي حكومات مجلس التعاون الخليجي والتي تعاني من مشكلات سياسية وديموغرافية مماثلة الى اللجوء الى مثل هذا الاجراء التعسفي في حالة تصاعد الحراك السياسي فيها.
-انها ستزيد التوترات السياسية والطائفية في المنطقة خاصة بين الشيعة والسنة وبالذات بين البحرين ودول مجلس التعاون من جهة، وايران، من جهة ثانية.
-انها ستثير انتباه دول لديها جاليات تم تجنيس بعض افرادها ومخاوفها من ان يتعرض افرادها الى ممارسات مشابهة في المستقبل.والمعروف ان الهند والباكستان اللتان لديهما جاليات كبيرة في الخليج تم تجنيس افرادها هي اكثر هذه الدول حساسية تجاه مثل هذه الممارسات وتمتلك استراتيجيات امنية وعسكرية وسياسية للتعامل معها.  
-انها تثير مخاوف فيما اذا كانت البحرين وغيرها من حكومات دول الخليج ستلجأ الى اجراءات مماثلة بحق متجنسين او مقيمين من بلدان الربيع العربي اذا ما ثبت مشاركتهم في دعم الحراك في تلك البلدان.
ثانيا على المستوى الوطني:
-انها ستؤدي الى حرمان الافراد الذين انتزعت عنهم الجنسية وعوائلهم من كافة حقوق المواطنة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية الاخرى مما سيترتب عليه تبعات واجراءات قد لاتكون قاسية انسانية فقط بل وخطيرة في اثارها السياسية والاجتماعية.
-انها ستزيد من اسباب الصراع السياسي الحالي وستؤجج الطابع الطائفي للحراك الديمقراطي الجاري وستدعم وجهات نظر حركة الاحتجاجات بالاستهداف الطائفي والفؤوي.
-انها قد تؤدي الى الدفع بالمزيد من التطرف، وربما اعمال عنف كرد فعل لن ينفع الحكومة بالادعاء حينئذ كيل الاتهام للمحتجين بعدم سلمية احتجاجاتهم.
-انها ستفضح نظام التجنيس المثير للجدل في البحرين وستضيف مبررات جديدة للمطالب الخاصة بسياسات التجنيس التي تتبعها الحكومة البحرينية والاتهامات الموجهة لها بالتميز الطائفي.
-انها ترسل رسائل متشددة الى قادة وناشطي الحراك وتجعل امكانية الحل السياسي اكثر صعوبة.
-انها تعمق الجراح داخل المجتمع البحريني وتزيد من صعوبات التعايش بين الطوائف والاجناس وتنقل الصراع الى مستويات جديدة، خاصة وان غالبية سكان البحرين البالغ عددهم قرابة 1,3 مليون هم من المتجنسين والمقيمين الاجانب.(46 بالمائة يحملون الجنسية البحرينية و 56 من الاجانب المقيمين.)
ان خلاصة النتائج المترتبة على قرار سحب الجنسية عن اكثر من 30 ناشط سياسي وحقوقي بحريني هو انها ستزيد الشرخ الوطني وتعمق الهوة وتطيل امد المآزق الوطني وتعطي اشارات سلبية عن نية النظام في التعامل مع مطالب الحراك ومراهنته على الحسم الامني والطائفي.
   

                                                         صفوة القول
                                                مختارات من اراء وقضايا  
                                            
                                  أساليب التّدخل الإنساني بين العراقوبورما
                                                                                           صلاح النصراوي
نشرت في الحياة 11/10/07// 

تكتسب ثورة الزعفران البورمية أهمية كبيرة بالنسبة إلينا نحن العراقيين، على الاقل من باب المقارنة التاريخية، بين بلدين مرّا بظروف مشابهة، منناحية سيطرة طغمة متشددة على الحكم واضطهادها لشعبها، ومغايرة لجهة الوسائل والاساليب التي اتبعت لإسقاطها، فحين يخرج البورميون إلى الشوارع في انتفاضة عارمة في وجه قوة غاشمة تقبض بيد من حديد على مقدراتهم منذ عقود طويلة، تماما مثلما فعل صدام حسين، فإن السؤال الذي لا بد ان يطرح هو هل سيستطيع الشعب البورمي الأعزل وحده اسقاط هذا النظام، أم أنه سيحتاج إلى الدعم الدولي، وما هو دور هذا الدعم وحدوده؟ لسنا وحدنا كعراقيين من يدرك اليوم النتائج الكارثية التي سببها الغزو الأميركي الذي أسقط صدام، لكن التجربة العراقية ستظل تطرح على ضمير العالم سؤالا آخر: هل يتوجب على الشعوب التي تحتاج لمؤازرة الاسرة الدولية للانعتاق من قهر أنظمتها ان تدفع ثمن تلك المساندة وفق تسعيرة تفرضها شروط الصراعات والمصالح الدولية والاقليمية؟

من الضروري التأكيد على فوارق جوهرية بين التجربتين العراقية والبورمية. فالانتفاضة البورمية المستمرة منذ سنوات هي نتاج نضال حركات المعارضة فيالداخل بقيادة اونغ سان سو تشي، تلك القائدة الوطنية الفذة، التي يعود الى حكمتها وصبرها وعزيمتها صمود الشعب البورمي في وجه تسلط الزمرة العسكرية الحاكمة وابقاء قضيته حية، في الوقت الذي حرم الشعب العراقي من معارضة داخلية قوية ومن تلك القيادة الحكيمة، سواء بسبب ممارسات صدام القمعية التي فاقت كل حدود، او لظروف موضوعية اخرى. اما الفارق الاساسي الآخر فهو العامل الجيوبوليتكي الذي يمثله العراق في سياسات الاقليم، والذي لعب دورا مهما في صوغ تفرد اميركا في تدخلها في العراق لحسابات مصلحتها البحتة، وليس لهدف انساني هو إنقاذ شعب من محنته، وهو ما أخذ يتبين الآن.

وفي ظني ان التاريخ سيشهد ان احد الاسباب الاساسية وراء وصول الوضع العراقي الى ما هو عليه هو افتقاد العراق قيادات سياسية بوزن ومكانة اونغ سان سو تشي، وهي مقارنة صحت قبلها على نلسون مانديلا، الذي اصبح اسطورة تدين له جنوب افريقيا بإخراجها من نفق العنصرية المظلم. واحد اسباب غياب هذه القيادات هو ان نظامي الطغمة العسكرية في بورما والتمييز العنصري (الابارتايد) في جنوب أفريقيا ظلا أقل بشاعة من نظام صدام الذي لم يسمح للمعارضة بالبقاء على قيد الحياة أبدا. غير ان الوضع المتردي في العراق الآن، ورغم طوي صفحة صدام، هو خير دليل على غياب القيادات الحكيمة ورجال الدولة اللامعين بل وحتى الطبقة السياسية الواعية التي بإمكانها ان تدير دفة الامور بسلام وروية. وبغض النظر عن الاسباب التي تقف وراء ذلك، فمن المؤكد ان وجود قيادات من نوع سو كان سيغير مجرى التاريخ في العراق، وهو الامر الآخر الذي يعطي للتجربة البورمية اهميتها مقارنة بالتجربة العراقية.

عادت سو، ابنة الزعيم الوطني البورمي اونغ سان، من المنفى عام 1988 لعيادة والدتها المحتضرة ولكن عودتها تصادفت مع بدء الانتفاضة الشعبية ضد الطغمة العسكرية التي استولت على الحكم منذ 26 عاما فوجدت نفسها وكأن القدر يناديها لتولي قيادة معارضة مفككة في وجه طغيان النظام. لم تهرب سو من النداء ولم تعد الى زوجها وعائلتها في بريطانيا (قارن ذلك بالمعارضة العراقية لصدام)، بل بقيت في بلدها تقود التظاهرات والتجمعات التي أطلقتها الانتفاضة. ولم يكن ذلك المثال الذي ضربته في التضحية واختيار البقاء الى جانب شعبها فقط هو الذي رسّخ زعامتها بشكل سريع، بل الحكمة والرهافة والصبر إلى جانب البراعة السياسية التي ابدتها في قيادة المعارضة وسط ظروف معقدة. في خطاب ألقته وسط مئات الآلاف من انصارها في احد ميادين رانغون يوم 26 آب (اغسطس) 1989 حذّرت سو من مغبة الوقوع في فخ العداء للجيش فميزت بينه كمؤسسة وطنية وبين الجنرالات الذين هيمنوا على البلاد (قارن ذلك ايضا مع تفكيك الجيش العراقي بعد الحرب). تأكيدها الآخر كان على بث قيم الوحدة الوطنية بين الاعراق المختلفة وروح التسامح والانضباط وعدم الانجرار وراء اعمال الثأر الشخصية (قارن كذلك ببث النزعات الطائفية والمحاصصة القومية والطائفية وروح الانتقام التي سادت في عراق ما بعد صدام).

منذ بداية قيادتها لمسيرة المطالبة بالديموقراطية وجهت سو اهتمامها نحو العالم طالبة تضامنه ودعمه لتلك المسيرة، لكنها ظلت تفعل ذلك مناشدة المنظمات الدولية والحقوقية والصحافة للتنديد بجرائم النظام العسكري وفضح انتهاكاته وفرض العزلة الدولية عليه، لكنها أبقت دائما قضية النضال لإسقاط السلطة في الاطار الوطني والسلمي باعتبار أن ذلك هو أولاً مهمة شعب بورما وحده، وثانيا: ضرورة الا ينزلق النضال الى اي شكل من اشكال العنف الذي رفضته بقوة حتى ولو كان رد فعل على عنف النظام ووحشيته. وأدركت سو اهمية التضامن الدولي لدعم مسيرة الديموقراطية من ناحيتين: اولاهما ان المقاطعة والعقوبات التي يفرضها العالم ستزيد من عزلة النظام. وثانيهما ان تلك الاعمال ستمنح البورميين المزيد من الامل حتى في اكثر مراحل الصراع اثارة لليأس والاحباط. وكتبت سو في رسالة وجهتها الى لجنة الامم المتحدة لحقوق الانسان عام 1989 ان الشعب البورمي سيعتمد على شجاعته وصبره وقدرة تحمله في انجاز المهمة، وان كل ما يطلبه من العالم هو دعم قضيته العادلة، وهذا موقفها حتى اللحظة.

والآن مع احتمال وصول الانتفاضة البورمية الى مرحلتها النهائية فإن الانظار تتجه الى الطريقة التي سيتعامل بها العالم مع الازمة هناك. هناك طبعا تعقيدات ترتبط بالعلاقات الدولية وبخاصة بالمصالح الصينية والهندية في منطقة جنوب شرقي اسيا والمشاغبات الروسية المتوقعة في الامم المتحدة وخارجها. كما ان هناك حقيقة جوهرية وهي ان بورما بلد زراعي فقير لا يتمتع بتلك الجاذبية التي شكلها العراق بثرواته النفطية الغنية في دفع الولايات المتحدة لاتخاذ قرارها المنفرد بشن الحرب لتغيير نظام صدام. ومن المؤكد ايضا ان التجربة العراقية المريرة ستفرض ذاتها على النقاش الذي يدور بشأن الخيارات التي على العالم أن يتخذها لمد يد العون إلى شعب بورما في نضاله من أجل الخلاص.
لقد كان أول رد فعل من الرئيس جورج بوشعلى العنف الذي واجهت به السلطة في رانغون المنتفضين انه أمر بفرض حظر على سفر الجنرالات البورميين وعائلاتهم الى الولايات المتحدة، كما ان ردود الافعال الاوروبية لم تزل في مرحلة الكلام الديبلوماسي والاستنكارات، في الوقت الذي يبدي الجاران الكبيران لبورما، الصين والهند، اهتماما اكثر بتدعيم نفوذهما في المنطقة على الاهتمام بمن يحكم بورما وبأية طريقة. اما الامم المتحدة فمن غير المحتمل أن يغير إرسالها ابراهيم غمباري الى رانغون شيئا في ظل انعدام رؤية دولية موحدة بشأن بورما، وهو أمر من الصعب ان يستمر اذا استمرت الانتفاضة واخذت منحى اكثر دموية.
لا نعرف في هذه المرحلة وعلى وجه التحديد الوجهة التي ستسلكها الانتفاضة البورمية وما اذا كنا سنرى في مرحلة ما لافتات ترفع وسط المتظاهرين فيرانغون تنادي بالتدخل الاجنبي لاسقاط المجلس العسكري الحاكم اذا ركب جنرالاته رؤوسهم، ولكن المؤكد ان شعب بورما سيبقى في حاجة الى دعم العالم وتضامنه معه، مما سيثير التساؤلات عن التجربة الجديدة في سياسات التدخل الانساني وتغير الانظمة الشاذة التي ستواجهها الاسرة الدولية قريبا، لكن من المؤكد ان العالم الذي يشاهد الكارثة العراقية سيتريث كثيرا في التدخل المباشر في بورما، وربما سيختار المثال الاندونيسي في التغيير الذي تمكن في النهاية من إطاحة سوهارتو، ولكنه حافظ على اندونيسيا وعلى الامن والاستقرار في جنوب شرقي اسيا. ولعل مقولة الرئيس بوش قبل اسابيع في أحد تبريراته للغزو الأميركي ان صدام قضى على امكانية قيام نلسون مانديلا في العراق ستكون ماثلة امامه وامام العالم. ففي بورما لا تزال اونغ سان سو تشي حية، وكل ما على العالم ان يفعله هو ان يقف معها ومع المقاومة البورمية الشجاعة.
اهمية مؤازرة ثورة الزعفران حتى نجاحها انها ترسل رسالة ودرسا ايضا لكل الشعوب الاخرى التي ما زالت ترسخ تحت نير الانظمة المستبدة. فبورما ليست وحدها من يختبر اذا ما كان لهذه العبارات اي معنى، بل العالم كله موضع اختبار، في ما اذا كان باستطاعته ان يقف مع شعب يتحدى الخوف ليستعيد حريته من دون ان يجبر على دفع ثمن باهظ كالذي دفعه العراقيون.

Analysis & views from the Middle East