صفوة القول   (12)              
                                          مختارات من اراء وقضايا
                                     ضعوا العراق تحت الوصاية الدولية
                                                                                       صلاح النصراوي 
نشرت في الحياة 
11/10/06

هناك تقويم للحالة العراقية يوافق عليه أيضا بعض المسؤولين الاميركيين، ومن ضمنهم السفير في بغداد زلماي خليل زاد، بأن ما تبقى من هذه السنة ربما سيكون المنعطف الذي سيحسم مستقبل العراق في أن يتمكن من تجنب حرب أهلية مدمرة، وبالتالي أن يبقى كياناً موحداً، أو أن ينشطر إلى كيانات طائفية وعرقية متعددة. الأساس الذي يقوم عليه هذا التقويم هو أن الوضع على الأرض بعد ثلاثة أعوام ونصف عام من الاحتلال، سواء ما يتعلق بالمأزق الخانق الذي وصلت اليه العملية السياسية أو الفشل المرير الذي واجهته جهود فرض الأمن والاستقرار، هو على وشك أن يتحول إلى أمر واقع تتخندق فيه الأطراف المتصارعة في جزر طائفية وقومية تستحيل إزالتها من بحر الدم المتدفق في معظم نواحي العراق.
هذا يعني أن هناك فرصة أخيرة توفرها بعض الجهود المبذولة عراقياً وعربياً ودولياً لتحقيق وفاق وطني من خلال سلسلة لقاءات المصالحة المستندة إلى مبادرة رئيس الوزراء نوري المالكي وجهود الجامعة العربية ولقاء مكة للمرجعيات الدينية، إضافة إلى محاولات القوات الأميركية والحكومية مواجهة الميليشيات وجماعات العنف المسؤولة عن التدهور الامني المتنامي بخطط لم تحقق نجاحاً حتى الآن. إلا أن الإخفاق الذي لازم المسارين السياسي والأمني خلال الفترة السابقة لا يبشر بأية إمكانية حقيقية للوصول بالعراق إلى بر الأمان، مما يعني أن استنفاد هذه الجهود خلال الفترة القصيرة القادمة يعني انهيار العملية برمتها وافتقار الوضع الحالي ليس فقط إلى الإجماع الوطني العام بل أيضا الى الشرعية الداخلية والدولية لاستمراره.
المسؤول عن هذا الفشل ونتائجه المريعة المتوقعة هو الاحتلال الذي لا تزال أخطاؤه وسوء حساباته تتوالى حتى بعد الكارثة التي حلت بالعراق، وكذلك القوى العراقية، سواء من تمكن منها من الهيمنة على السلطة ومارس وصايته عليها أو تلك التي تنازعها عليها باستخدام العنف والإرهاب، إضافة إلى التدخلات اللامسؤولة والأنانية لدول الجوار التي ساعدت على الدفع باتجاه هذه النتيجة المأساوية. إن عجز هذه الأطراف عن وضع العراق على سكة الأمن والاستقرار وإعادة البناء معناه أنها غير مهيأة وغير قادرة على إدارة دفة الأمور، هذا إذا كانت راغبة فعلاً في الوصول بالعراق الى بر السلام. ويبقى التحدي الأكبر الذي سيواجه الجميع هو كيفية الخروج من هذا المأزق، إذا ما كان الأمر يتعلق حقيقة بالسعي لانتشال العراق من مصير مدلهم وإنقاذ العراقيين من محنتهم القاسية
بعد كل التجارب الفاشلة التي تمت منذ الاحتلال لإعادة بناء الدولة والمجتمع اللذين قام بتفكيكهما، لا بد من التفكير الجدي بخيارات وبدائل أخرى، تستفيد من تجارب تاريخية ناجحة جرت في مناطق عدة من العالم. ولأن من المشكوك فيه أن تمتلك الأطراف التي ساهمت في إيصال العراق إلى ما هو عليه الآن، البصيرة والحكمة والشجاعة للإقرار باخطائها، وستبقى متمسكة بمواقفها القديمة الرافضة لنهج التفكير المشترك، فقد حان الآوان كي يجري البحث عن عملية سياسية جديدة وتحت رعاية وإشراف دوليين. إن انخراط المجتمع الدولي في مشروع حقيقي وفاعل لإنقاذ العراق بقدر ما هو مسؤولية اخلاقية، فهو واجب سياسي وقانوني، يتحتم القيام به لتجنيب المنطقة والعالم تداعيات فظيعة ستعاني منها لو تحقق الكابوس الأسوأ وانهار العراق.
ولعل صيغة وضع العراق تحت وصاية دولية، قد تمثل مخرجا قانونيا وسياسيا موقتاً للمأزق العراقي، ريثما يتم وضع أسس جديدة لعملية إعادة بناء العراق المدمر تحافظ على كيانه وتوفر العدالة والمساواة لجميع مكوناته الدينية والقومية. عراقياً هناك حاجة لإعادة بناء الدولة والمجتمع والهوية الوطنية العراقية ضمن إطار نظام سياسي شرعي توافقي يحقق مصالح الجماعات المختلفة، ولم يعد ممكنا تحقيق هذا النظام وفق الصيغ الحالية، وبواسطة الجماعات المهيمنة. أميركياً، ومع تزايد ضغوط الفشل والتراجعات هناك حاجة لمخرج مشرف يمنع هزيمة قاتلة للولايات المتحدة. اما اقليمياً ودولياً، فهناك دوافع سياسية واستراتيجية تتعلق بالأمن والاستقرار، وبخاصة إزاء تنامي ظاهرة الارهاب، تفرض مشاركة فعالة من المجتمع الدولي في بناء عراق موحد ومستقر وآمن. بينما تبقى هناك أرضية قانونية لفرض الوصاية الدولية الموقتة على العراق توفرها قرارات مجلس الامن ذات الصلة بعملية احتلاله وكذلك ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنح الحق بفرض الوصاية الدولية تمكيناً لشعوب الأراضي المحتلة والدول الفاشلة من تحقيق مصيرها، وفق إرادتها، وليس إرادة المحتل، أو القوى التي يأتي بها إلى السلطة.
تنبع الحاجة إلى فرض الوصاية الدولية على العراق من الحاجة الى المحافظة على كيانه، وتوفير الحماية للعراقيين في أرواحهم وحقوقهم الإنسانية، ومصادر ثرواتهم التي عجزت سلطات الاحتلال والإدارة الحالية عن حمايتها، إضافة إلى ضرورة ضمان السلام والأمن الدوليين من احتمال امتداد النزاع إلى مناطق أخرى. ويوفر ميثاق الأمم المتحدة في فصوله 11 و12 و13 جوهر وروح القواعد القانونية اللازمة لنظام الوصاية وتحقيق الأهداف المرجوة منه، بغض النظر عن الدوافع الأصلية التي بني عليها نظام الوصاية الدولية، الذي يستثني الدول الأعضاء، مثلما الحالة العراقية، من الوقوع تحت وصاية الأمم المتحدة. فالحقيقة الساطعة أن الدولة العراقية غير موجودة حاليا على الأرض والحكومة التي تتمتع بسلطات السيادة غير فاعلة وغير قادرة على ممارستها، لا لحماية أرواح وممتلكات شعبها، ولا لحماية ثرواته الوطنية مما يضع العراق فعلياً تحت شروط وضع الوصاية، كما جاءت في الميثاق بهدف توفير الأمن والاستقرار، وتحقيق المصالحة الوطنية، وبدء عملية إعادة البناء على أسس من الشرعية والاستقلال الحقيقي.
لقد ارتكبت أخطاء فظيعة منذ بداية الاحتلال حالت دون إيجاد الصيغة المناسبة لإعادة بناء الدولة ولإدارتها بما يحفظ وحدتها وتطلعات مكوناتها الطائفية والقومية المتعددة وفق صيغة تدعم الهوية الوطنية وتصالح بين توقعات ومصالح هذه المكونات. وبدلا من ذلك تعزز الشرخ الطائفي وتحول إلى صراع دموي وأصبحت مدن العراق دويلات تتحكم فيها الميليشيات وجماعات العنف، وانفرط عقد الدولة التي استبيحت هيبتها وسلطتها، وانهار السلم الاجتماعي، وعاث الفساد الذي جاء بأقل الناس كفاءة لإدارة السلطة الجديدة، التي هيمنت على موارد الدولة الطبيعية، وبخاصة النفط. والأهم من كل ذلك قضى الفساد على الحقوق الأساسية للإنسان العراقي، الذي أصبح يقتل لأسباب تتعلق بدينه ومذهبه وأفكاره، أو حتى من دون سبب، وترمى جثته في مياه الأنهار أو فوق أكوام القمامة. إن مثل هذا الواقع المرير لا يمنح شرعية لأية حكومة ولأية عملية سياسية، مهما ادعت انها جاءت كي تنقذ العراق من نظام استبدادي دموي، وأنها أتت على أساس انتخابات ودستور.
إن هدف الوصاية الموقتة يجب أن يكون واضحاً ومحدداً منذ البداية، وهو تحقيق الأمن والاستقرار بالطريقة التي تمهد لإطلاق عملية سياسية جديدة، هدفها النهائي إعادة بناء الدولة في العراق بطريقة سليمة، وإنهاء الاحتلال أو الوجود الأجنبي بكل صوره. هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق لا بالوسائل ولا بالقوى المهيمنة على المشهد السياسي حالياً، وعلى رأسها الاحتلال نفسه والإدارة العراقية والجماعات المعارضة لها، التي ساهمت جميعاً في الوصول إلى هذه النتيجة المروعة. لا بد إذن من إدارة دولية تمتلك تفويضاً لفرض السلام والأمن، وتبدأ عملية سياسية قائمة على مشروع وطني بقوى سياسية واجتماعية ترتكز على مشروعية تمثيلها للقوى الحية في المجتمع، لا على ميليشيات أو جماعات إرهابية أو دعم خارجي.
ومع هذا فليست الوصاية الدولية وصفة سحرية لعلاج الوضع العراقي المعقد، بل هي مجرد مقاربة جادة لم تختبر، وفرصة لم تنتهز، وحسنتها الوحيدة أنها جربت ونجحت في مناطق مشابهة كثيرة في العالم، اتيح للسكان فيها ممارسة حقهم في تقرير مصيرهم بحرية، من دون ضغوط أو هيمنة أو تضليل وبلا إرهاب وترويع. أستطيع القول بثقة إن العراقيين لم يتح لهم أن يجربوا بحرية الخيارات الحقيقية التي تمكنهم من الاختيار، وأنهم خضعوا بسبب سياسات الاحتلال وتجاربه المختبرية إلى عمليات غسل دماغ وتهييج وتلاعب وخداع مورست من فوق المنابر بعناوين شتى منها الديموقراطية أو كليشيهات المقاومة، مما يستوجب إتاحة المجال أماهم لاختبار قدراتهم الحقيقية، بعيدا عن أولئك الذين تكلموا باسمهم طيلة الفترة الماضية وخاضوا مغامرات السيطرة على السلطة من دون إنجاز حقيقي.
أدرك مشاعر الإحساس بالعجز والإحباط وربما بالمهانة الوطنية التي يمكن أن تأتي من فكرة وضع العراق تحت نظام للوصاية الدولية طالما ارتبط بعهود الاستعمار البغيضة. لكن آن الأوان أولا للإقرار بالحقيقة المرة بأن جزءاً كبيراً من التدمير قد تحقق على أيدي العراقيين أنفسهم، وثانيا بتفحص اجتهادات أخرى لإنقاذ العراق من محنته عبر فتح القنوات التي أغلقها الاحتلال على العالم، كي يتحمل هذا العالم مسؤوليته أيضا في إصلاح الخراب الواقع. وأدرك أيضا أن الأمم المتحدة خذلت العراقيين مرات عدة خلال العقدين الماضيين بسبب خضوعها للهيمنة وفسادها وسوء إدارتها، مما يثير الشكوك في قدرتها على إدارة وصاية دولية كفوءة على العراق. لكن التجربة أثبتت، مرة تلو الأخرى، بأن التدخلات الدولية في شؤون الدول الفاشلة ستستمر وأن من المؤكد أن العراق، سواء بقي على حاله الآن، أو تقسم إلى دول وكيانات، سيكون محطة لهذه التدخلات، المشروعة منها وغير المشروعة. ولذلك سيكون من الأفضل حل المسألة العراقية عن طريق دولي ووفق مرجعيات القانون الدولي والضمانات التي يوفرها، حتى لو أضاف ذلك ندبة جديدة في الروح والجسد العراقيين، كجزء من متطلبات الصراع الذي يخوضونه من أجل البقاء.                              

                                                 صفوة القول   (11)
                                          مختارات من اراء وقضايا
                                              خيار واحد للإصلاح
                                                                                    صلاح النصراوي 
نشرت في الحياة 19-3-2005
تريثنا كثيراً، زملائي وأنا، في المؤسسة الصحافية التي اعمل فيها، قبل وصف قرار الرئيس المصري حسني مبارك الطلب الى مجلسي الشعب والشورى تعديل الدستور ليتيح اختيار الرئيس بالاقتراع العام والسري والمباشر بدلاً من طريقة الاستفتاء على شخص واحد المتبعة منذ عقود. هناك في جعبتنا نحن العاملين في الصحافة تعبيرات جاهزة لمثل هذه الحالات، كأن نصف الخطوة او الحدث بأنه مفاجىء أو مهم أو بارز أو غير مسبوق، واحياناً كثيرة نقول انه تاريخي، وكلها تعبيرات نستلها على عجل من خزانة لغة الحرفة التي نغرف منها في كتابة الخبر. غير ان مغزى الخطوة التي أقدم عليها مبارك كانت بكل المعايير اكبر من ان تختزلها «كليشيهات» صحافية. وكلما امعنا في الأمر حينها مستعيدين تاريخ هذا البلد العريق وجدنا امامنا حقيقة دامغة وهي أنها المرة الاولى التي سيتاح فيها للمصريين اختيار رئيسهم بأنفسهم منذ عهد الأسرة الاولى التي وضعت مداميك الدولة المصرية القديمة قبل أكثر من خمسة آلاف عام.
والواقع ان ما بدا في حينه حدثاً مصرياً يحتاج الى توصيف موضوعي ودقيق كان حدثاً عربياً ايضاً، لأنه كشف لحظتها كيف ان منطقة مهمة في هذا العالم كالمنطقة العربية كانت مهد الحضارات الانسانية ظلت كل هذه القرون تهجع في كهف الحكم الفرداني والتسلط والدكتاتورية والشمولية وترفض بعناد دخول العصر من بوابات الحرية والديموقراطية بينما لا تزال شعوبها غير قادرة على اختيار حكامها في انتخابات حرة ونزيهة. وفي حين ان موجات الديموقراطية، العارمة تتوالى على مختلف بقاع العالم منذ عقود طويلة حتى ان الديموقراطية التمثيلية التي تعبر بها الجماهير عن ارادتها في اختيار ممثلين ينوبون عنها لحكمها وادارة شؤونها اصبحت نمطاً شائعاً حتى في بلدان لم يكن لها وجود على الخارطة العالمية منذ سنين قليلة.
لا نعرف على وجه اليقين نتائج الخطوة التي اقدم عليها مبارك على الواقع المصري، وهي لن تكون في التحليل النهائي معزولة عن خطاب التغيير والتطوير والاصلاح الذي يسود المنطقة منذ عامين ولا عن سلسلة التطورات الهائلة منذ تفجيرات 11 ايلول (سبتمبر) 2001 ثم الحرب على العراق عام 2003، على رغم أن البعض سيصرّ على رفض مثل هذا الاستنتاج. فهي جاءت بعد اسابيع من الانتخابات الفلسطينية والعراقية والسعودية وقبل يومين فقط من الهبّة الشعبية التي اسقطت حكومة عمر كرامي في لبنان ثم اجبرت الرئيس السوري بشار الاسد بعد ذلك على اعلان استعداده للانسحاب من لبنان. وقبل كل ذلك أتت بعد سلسة خطوات اصلاحية اتخذها بعض دول الخليج ومبادرات خارجية وداخلية اتخذها الزعيم الليبي معمر القذافي وتوقيع حكومة الخرطوم على اتفاق السلام مع الجيش الشعبي لتحرير السودان وابدائها الاستعداد لمصالحة وطنية مع اطراف المعارضة الشمالية… وهذه كلها كانت جزءاً يسيراً من استحقاقات على المنطقة طال انتظارها.
الاسئلة الآن كثيرة وكلها تتمحور حول ما اذا كانت منطقتنا التي ظلت انظمتها التسلطية عقوداً طويلة تقاوم رياح الديموقراطية والحرية قد لانت أخيراً واستسلمت لقدرها أم انها لا تزال عصية على التغير والاصلاح وما هذه الخطوات سوى انحناء عابر ريثما تلقي تلك الرياح بثقلها؟من المؤكد أن اليقين في الاجابة على هذه الاسئلة هو مسألة محفوفة بالمخاطر، كما ان من المبكر جداً اعلان هزيمة الانظمة والجماعات والافكار الاستبدادية والتسلطية والشمولية التي لا تزال تهيمن على الحياة العربية وترفض ان تنكس رايتها امام زحف الحرية الذي بدأ يدب في شوارع العديد من المدن العربية. ففي العراق وعلى رغم النتائج الباهرة للانتخابات، إلا أن اعداء الديموقراطية يصطفون على مختلف الجبهات ويقبعون في مختلف الخنادق يحاولون الانقضاض على الوليد الجديد. وفي فلسطين لا يزال التحدي الاكبر امام بزوغ شمس الحرية هو قيام دولة فلسطينية مستقلة تمنح لحياة الانسان الفلسطيني معنى وكرامة. اما في لبنان فإن امام انتفاضة الاستقلال مشواراً لا يزال طويلاً قبل ان تتحول فيه الى سلطة الشعب الحقيقية بعيداً عن التدخلات والتأثيرات الخارجية والسياسات الفئوية ومصالح امراء الحروب والمليشيات الذين سيحاولون ثانية العودة بلبنان الى عهد الهيمنة والاحتراب. وفي كل مكان آخر في هذا العالم العربي خطت الانظمة خطوة واحدة الى الامام على طريق الاصلاح والتطوير هناك تهديد حقيقي بخطوتين الى الخلف في اللحظة التي تضعف فيها ارادة المطالبة بالتغيير.
ان فهم عملية الاصلاح الجارية وتوصيفها الوصف الصحيح مطلوب اولاً لتفادي الوقوع في أحابيل الانظمة التي تطبل للخطوات الصغيرة التي تقوم بها باعتبارها منجَزاً ديموقراطياً تمن به على شعوبها وليست حقوقاً لهذه الشعوب طال أجل سدادها. وثانياً لتجنب الإغراق في التفاؤل بأن عصراً من الديموقراطية والحرية قد حلّ اخيراً بين ظهرانينا بعد كل عقود الاستلاب والقهر. إن ما يجري في عالمنا العربي في الحقيقة هو مطلع لمشهد خلاب،على جانب منه نرى شعوبا تتطلع إلى الانعتاق وتسعى اليه، وعلى الجانب الآخر، حكومات وانظمة بدأت تقر بعدم قدرتها على تجاهل هذه المطالب او لجمها لكنها تسعى الى احتوائها بالطرق الاحتيالية التي تجيدها. ما يعنيه هذا هو ان الطريق لا يزال شاقاً ووعراً ويحتاج الى ما هو أكثر من التمنيات والنيات الطيبة او حتى الالحاح اللجوج في المطالب التي بدأ يعبر عنها تيار عام داخل المجتمعات العريية. فالمهم اليوم هو إدراك الاشكاليات التي تواجه عملية التحول الديموقراطي في العالم العربي والتعامل معها بجدية ورصانة بعيداً عن كل اشكال التسويف والذرائعية والضبابية وخلط الامور وعلى اعتبار ان الفشل او حتى التأخر في انجاز هذا التحول سيكون وصفة اكيدة للارتداد الذي سيسلم العالم العربي هذه المرة إلى القوى الظلامية التي تعشش فيه.
اول هذه الاشكاليات هو العلاقة بين الداخل والخارج في العملية الديموقراطية التي تستغلها الانظمة لاغراض سافرة في التحريض والابتزاز والترهيب والتي نجحت الى حد كبير في نشر الاوهام بان دمقرطة المنطقة واصلاحها هو مطلب خارجي وبالذات أميركي ولمصلحة اجندات اجنبية. ان الديموقراطية برموزها وقيمها ومؤسساتها هي حاجة وطنية خالصة عبرت عنها النخب العربية التي خاضت معارك الاستقلال ضد الاستعمار مثلما تعبر عنها نخب اليوم المقاومة للهيمنة. ومن الضروري فضح محاولات التشكيك والاتهام لدعوات الاصلاح بأنها معبرة عن مصالح واهداف اجنبية. فالوقائع الحية تشير الى ان معظم هذه الانظمة لم يكن بإمكانها الاستمرار في الحكم طوال هذه السنوات من دون عون واسناد خارجي، بينما كانت هي تضرب بعرض الحائط كل القوانين والدساتير ومعايير الحكم الصالح ومواثيق حقوق الانسان الدولية التي انتجتها البشرية. وبالتالي فإن من استقوى بالقوى الخارجية ضد شعوبه طوال كل هذه السنين لا يمكنه الآن الادعاء بأن المطالبة بالاصلاح هو عزف على نغمات خارجية لمجرد أن الولايات المتحدة وجدت في لحظة ما ان حماية امنها القومي ضد الارهاب يتطلب تعزيز ونشر الديموقراطية في المنطقة.
وفي هذا الاطار يندرج ايضاً ما يطرح بشأن اشكالية الخصوصية الوطنية والبيئة المحلية ودعاوى التناقض بينها وبين مبادرات الاصلاح المطروحة على المنطقة وكأن التطوير والتحديث واقامة ديموقراطية حقيقية واحترام حقوق الانسان وكرامته وتوسيع فرص مشاركة المرأة والشباب وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة والقضاء على الفقر ومكافحة الفساد ليست قيماً عليا أصيلة للعرب ومطالب يرفعونها منذ اول مشاريع للنهضة طرحها مفكروهم قبل قرنين من الزمن. ان دعاوى المرحلية والتدرج وعدم حرق المراحل وعدم اختبار المجتمعات العربية لطرق الحداثة وغياب المشروع الليبرالي تستخدم ايضا ككوابح لعرقلة عمليات الاصلاح وكثيراً ما تطرح ابواق السلطة مبررات اخرى كعدم جاهزية المجتمعات العربية وافتقارها للوعي السياسي وعدم نضجها الثقافي لقبول مشاريع التطوير وكلها ليست إلا تبريرات فاسدة وادعاءات استخدمت ولا تزال لاطالة عمر الاستبداد.
مع ذلك ينبغي الاعتراف بأن المنطقة العربية تعاني وعلى المستوى الجماهيري من حالة استلاب مرضي فظيع يتمثل في حالات من اللامبالاة والقدرية والتشكيك والارتباك والتي هي نتاج خيبات الامل المتتالية بقدرات وارادات انظمتها على الاصلاح والتخلي عن النزعات الشمولية والاحتكار. ولطالما شاهدتُ بنفسي اثناء انتخابات جرت في بلدان عربية عديدة أناس يأنفون من الذهاب الى مراكز الاقتراع وهي على بعد بضعة امتار من بيوتهم للادلاء باصواتهم معللين مواقفهم تلك بعدم ثقتهم بنزاهة الانتخابات وبنتائجها التي يرون انها مقررة سلفا من قبل النظام. ان استعادة ثقة الناس بجدوى عملية الاصلاح هي أمر جوهري لكنها عملية لا يمكن ان تقوم بها الانظمة التي لا ترى لها مصلحة في ذلك، بل يتطلب الأمر تطوير واحياء ثقافة ديموقراطية جماهيرية كانت دوماً عاملاً حاسماً في نشأة الديموقراطية وتطورها وتماسكها. حقا ان الشعوب دائما ما تثور كالبراكين عند لحظات تاريخية معينة لكن موجات الديموقراطية تحتاج الى ما هو اكثر من الغضب،الى ثقافة وسلوك وقيم ديمقراطية بامكان مؤسسات وكتابات ان تغرزها في النفوس التواقة،والمجتمعات العربية هي الاكثر حاجة الآن وبشكل استثنائي الى الخروج من حالة الياس والاحباط وزجّها في صلب العملية الجارية.
هناك أيضاً قضية غياب النخب المهيأة لقيادة مطالب الاصلاح والتحديث والتي تعتبر من المستلزمات الاساسية لنجاح هذه العملية التي ينبغي ان تتمحور على مستوى شعبي وقاعدة جماهرية اجتماعية عريضة خارج اطارات الدولة الرسمية وأجهزتها السياسية التي ستحاول بكل قوة الالتفاف على مطالب التغير أو افراغها من محتواها وتسخيفها. لقد أضعفت سياسات الهيمنة والاقصاء والاحتكار التي مارستها انظمة الحزب الواحد وتدخلات اجهزتها الامنية والبيروقراطية الاحزاب والهيئات والنخب السياسية الاخرى وانهكتها حتى بدت في معظم الاحيان مهمشة ومهزوزة ومخترقة وفي صورة كاريكاتورية مقززة لا يمكنها ابداً الحصول على ثقة الناس بقدرتها على مواجهة السلطة وقيادة الحركة الاصلاحية. ان اولى خطوات الاصلاح ينبغي ان توجه الى رفع يد الدولة وكل اجهزتها عن الاحزاب وهيئات المجتمع المدني والكف عن الوصاية التي تمارسها عليها ومحاولات اختراقها باشكال مباشرة او غير مباشرة. ان عمليات توسيخ وتوحيل القيادات التي تتصدى لقيادة حركات الاصلاح، ومحاولات نزع الشرعية والاسناد الشعبي عنها، هي محاولات خطيرة لأنها لن تؤدي إلا الى تحول الحركة الاصلاحية الى الشارع الذي سيأخذ حينئذ المبادرة بيده وهناك مؤشرات عديدة على ذلك.
ما لذي يجعل الأمر مهماً بل خطيراً الى هذه الدرجة؟ انه الموقف الحساس والحرج الذي تمر به المنطقة العربية بعدما فشلت انظمتها في القيام بواجباتها في تلبية كل متطلبات الحياة الحرة والكريمة لشعوبها وآلت بها الى هذا التداعي والعجز امام التحديات الداخلية والخارجية. انها المخاوف والمخاطر التي تكمن وتتربص بالاوطان وتندس في كل ثناياها وفي ارواح شعوبها التي سوّدها القهر والعسف والطغيان. ومن المؤكد ان هناك خيارا للتغير والاصلاح غير خيارات صدام حسين أو قرار 1559 أو حتى مبادرة الشرق الاوسط الكبير. انه ببساطة خيار الخروج من دائرة التسلط والاحتكار والوصاية والتخلي عن الاعيب السلطة واتخاذ انصاف الخطوات. إنه خيار الانصياع لارادة الشعوب العربية ولتطلعاتها في أن تعيش مثلها مثل باقي شعوب العالم بحرية وكرامة ورفاه وسلام.
14-11-2012
                                    نبذ ثقافة الإفلات من العقاب
                                                                                     صلاح النصراوي

هزت بريطانيا في الاسابيع الاخيرة فضيحة استغلال جنسي للقاصرات اتهم فيها مقدم  برامج تليفزيوني واذاعي شهير توفي منذ سنوات.ما هو مثير في هذه القضية التي بدأت الشرطة بالتحقيق بشأنها ليس فقط عدد القضايا المثارة. وكذلك ارتكاب بعضها داخل مباني هيئة الاذاعة البريطانية, التي تغاضت بدورها عن التحقيق فيها بل ايضا في ان كشفها جاء بعد نحو اربعين عاما من بدء وقوعها, وبعد عام من وفاة جيمي سافيل, بطل الفضيحة.
ما حصل هو ان سافيل استغل شعبيته ومركزه الاجتماعي نحو خمسة عقود قام خلالها بنحو300 حالة انتهاك عرض واعتداءات جنسية مسجلة اضافة الي حالات عديدة اخري يجري التحقق منها.الفضيحة فضحت بدورها جرائم اخري, منها قضية تتعلق باعتداءات جنسية علي الاطفال خلال عقد السبعينيات والتي امر رئيس الوزراء ديفيد كاميرون باجراء التحقيقات بشأنها, خاصة مع احتمال تورط نواب عن حزب المحافظين فيها.
وحين كنت أروي هذه الوقائع قبل ايام لاحد اصدقائي في الوسط الاعلامي شرد بذهنه طويلا قبل ان يروي لي حكاية عن مخرج تليفزيوني شهير عاصره في نفس تلك الفترة الزمنية وروي لي كيف ان الرجل كان نموذجا محليا عن سافيل البريطاني وان فضائحه مثل فضائح غيره كثيرة وزكمت حينها الأنوف, إلا انها رحلت معهم الي قبورهم دون ان تفتح سيرتها لا في الحياة ولا في الممات.
ثمة قضية جوهرية هنا تتجاوز فضيحة سافيل ورواية صديقي عن المخرج التليفزيوني اياه لتصب في صلب الموضوع الا وهي تحقيق العدالة, وبالذات ضرورة الا يفلت احد من العقاب عن جريمة ارتكبها,مهما تكن الجريمة ومهما يطل الزمن, وهي قضية تطرح نفسها بشدة الآن في الدول والمجتمعات العربية التي تمر بتجارب المراحل الانتقالية في فترات ما بعد الثورات التي اطاحت بأنظمة الفساد والاستبداد والجرائم التي ارتكبت تحت سلطتها.
 وما تثيره التحقيقات في قضية سافيل هو انه لا ينبغي ابدا ان يكون التقادم, ولا طبيعة الاشخاص المتورطين سببا في اغفال النظر في الجرائم والانتهاكات, حتي ولو كان الامر يقتصر علي مجرد تسليط الضوء علي الجريمة وتعرية مرتكبيها بغية تحقيق قدر معقول من العدالة للضحايا وللمجتمع, عبر كشف الجريمة ومعالجة الجراح التي ولدتها وتعويض الضحايا ولو تعويضا معنويا كافيا.
في القانون الدولي الانساني يشير مفهوم الافلات من العقاب الي الاخفاق في جلب منتهكي حقوق الانسان والجرائم للعدالة, وهو بهذا يعني انكار حق الضحايا للحصول علي العدالة والتعويض المادي والمعنوي اللازم لهم. كما يعني العجز عن تسليط الضوء علي الجريمة وكشفها امام الرأي العام الذي هو ايضا صاحب مصلحة حقيقية في تحقيق العدالة ورد المظالم وكذلك منع تكرار تلك الانتهاكات والممارسات وردع كل من تسول له نفسه من القيام بها مستقبلا.
وعمليا فإن الافلات من العقاب يعني عدم خضوع المشتبه بهم للتحقيق الذي يمكن ان يؤدي الي توجيه الاتهام لهم, واعتقالهم ومحاكمتهم وادانتهم, اذا ماوجدوا مذنبين, وفرض العقوبات اللازمة عليهم وتعويض ضحاياهم.إن الافلات من العقاب يتأتي من اخفاق الدولة في تنفيذ التزاماتها واتخاذ الاجراءات الضرورية اللازمة في تحري الوقائع احتراما لحقوق الضحايا في احقاق العدل, سيان في ذلك القضايا الجزائية او المدنية او الادارية او حتي الاجراءات الانضباطية.
ما تشير اليه التجربة التاريخية الحديثة ان الافلات من العقاب اكثر شيوعا في البلدان التي تفتقد لتقاليد حكم القانون وانتشار الفساد فيها, او لان القضاء ضعيف, او لان اجهزة حفظ القانون والنظام تتمتع بالحماية والحصانة, مما يعني عدم توفر الفرصة او استحالة جلب المتورطين امام القضاء.غير ان التجربة اثبتت ايضا ان دولا تشتهر بالديمقراطية وحكم القانون, كالولايات المتحدة واسرائيل, تشهد هي ايضا حالات من الافلات من العقاب, خاصة ما يتعلق بافراد جيوشها واجهزة مخابراتها عندما يتعلق الامر بانتهاكات ترتكب في اثناء الحروب والصراعات.
إن اكثر اوجه هذه القضية ايلاما هو ما يسمي بشيوع ثقافة الافلات من العقاب والتي تعني ان بعض الافراد في المجتمع يبدأون بالاقتناع والتصرف بأن بامكانهم ان يفعلوا ما يريدون دون حساب, او رقابة, او مواجهة عواقب القانون لافعالهم, الأمر الذي يتطلب جهدا معاكسا لمقاومة هذا النوع من الثقافة وتكريس ثقافة بديلة, وهي ثقافة المحاسبة وإتاحة الفرصة للعدالة أن تأخذ مجراها في معاقبة كل من ارتكب جريمة, ومن أعطي الأوامر لتنفيذها, او حرض عليها أو من تستر عليها مهما يطل الوقت او يقصر.
هذه ليست فقط وظيفة الدول التي ينبغي عليها العمل علي ارساء فلسفة سيادة القانون كقوة لايمكن تجاوزها او خرقها من خلال النظام المؤسسي القانوني والامني والاجتماعي, بل هي ايضا مهمة مجتمعية ينهض بها الناس الذين ينبغي ان يستبسلوا في الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم.
في قضية سافيل لم يكن ممكنا ابدا فتح الملفات القانونية لولا الشجاعة التي ابدتها قلة من النساء ظهرن امام الاعلام ليدلين بشهادتهن عن الانتهاكات الجنسية التي تعرضن لها علي يديه في اثناء مشاركتهن في برامجه التليفزيونية والاذاعية, ثم ليفتحن الطريق امام العشرات اللاتي كسرن حاجز الصمت والخجل وكشفن عن تجارب مماثلة. وتوفر المراحل الانتقالية فرصة كبري لنبذ الممارسات القديمة لانه بالتالي لا يمكن اعادة بناء الدولة المدمرة بسبب سياسات الانظمة الاستبدادية الفاسدة الا عبر تحقيق العدالة والتي بدورها لا يمكن اقامتها من خلال اصلاح النظام القضائي فقط دون نبذ كلي لثقافة الافلات من العقاب واحلالها بثقافة حكم القانون.
إذا كانت اقامة حكم القانون تعني الاقتصاص من مجرمي الأمس فإنها تعني ايضا تكريس مبدأ اساسي وهو عدم السماح, كواجب اخلاقي وقانوني, تكرار تلك الجرائم والانتهاكات في عهود التغيير, سواء من خلال عمليات الثأر والانتقام, او عن طريق منح المتنفذين الجدد لانفسهم مرتبة القداسة والحق بأن يفعلوا ما يشاءون لمجرد أنهم اصبحوا سادة في النظام الجديد.

                                                    صفوة القول (10)
                                               مختارات من اراء وقضايا 
            “زوربا العراقي”: كنت أعرف جيداً ما سيتهدم لكني لا اعرف ما الذي سيبنى فوق الانقاض!
                                                                                       صلاح النصراوي
نشرت في الحياة 2002-12-12 
مع بدء العد التنازلي للحرب التي تستعد الولايات المتحدة لشنها من اجل اسقاط النظام العراقي، بعد الانهيار المتوقع لنظام التفتيش الحالي على اسلحة الدمار الشامل العراقية، تخطو واشنطن خطوات ابعد قليلاً من شعارها المبهم بأن العراق “سيكون افضل بدون صدام حسين”، وتكاد تقدم للعراقيين وللعالم معالم صورة عراق المستقبل التي تعمل على صياغتها وفقاً لرؤيتها وحساباتها ومصالحها الاقليمية والكونية. قد لا تبدو هذه الصورة الآن مفصلة ولا مكتملة غير أنها تكشف بما احتوته وبما اسقطته من تفاصيل عن نمط التفكير الاميركي وعن الخطوط العامة لبرنامج عمل او خطة طريق هيئتها الولايات المتحدة لليوم التالي للتخلص من النظام في بغداد.
بدأ بعض ملامح التفكير الاميركي هذا يظهر في الوثيقة الاميركية التي قدمت اخيراً في لندن الى اطراف المعارضة العراقية خلال استعداد الاخيرة لعقد مؤتمر جديد لها تسعى من خلاله الى التوافق في ما بينها على صيغة عمل مستقبلي يتزامن مع تنفيذ المشروع الاميركي لتغيير النظام. بينما تظهر ملامح اخرى في تقارير وأوراق أعدت في مجموعات عمل خاصة في بعض مراكز الابحاث الاميركية بمشاركة بعض عراقيي المنفى وباشراف وزارة الخارجية الاميركية ومجلس الامن القومي وابرزها تقرير “مجموعة العمل الخاصة بمبادئ الديموقراطية” الذي ينظر اليه باعتباره مسودة لدستور العراق المقبل. كل هذه الحزمة من الاوراق والافكار التي تتضمنها، والتي ستوضع على مائدة مؤتمر المعارضة بهدف تبنيها، تكشف عن جهد اميركي مضن بذل خلال الشهور القليلة الماضية لرسم صورة عراق المستقبل في عملية اشبه ما تكون بعملية استنساخ تجري داخل مختبرات مغلقة.
تفصح “وثيقة لندن” التي عُززت لاحقاً بخطاب رسمي وقّعه اربعة من كبار مسؤولي الادارة الاميركية، لغةً ومضموناً، عن الاسلوب والنيات التي تضعها هذه الادارة أولاً في التعامل مع المعارضة، وثانياً في رسم صورة عراق المستقبل الذي تضع لبناته. ولو تجاوزنا اللغة وهي لغة استعلائية واملائية بكل المقاييس تضع شروطاً والتزامات مسبقة على كل المعارضين العراقيين كثمن لمجرد المشاركة في مؤتمر للبحث في “(رؤية) لعراق المستقبل” فإن بعض بنودها المدونة يكشف نيات لاستبقاء معظم قواعد اللعبة في أيدٍ اميركية وتقليص بل حتى استبعاد العراقيين من انتاج المعايير التي تخص مستقبلهم ومستقبل بلادهم. فإصرار “وثيقة لندن” مثلاً على “عراق في سلام مع جيرانه يتخلى عن اسلحة الدمار الشامل ويقبل من دون شرط قرار مجلس الامن الدولي 6 8 7 وباقي قرارات المجلس” هو شرط مثقل بالالتزامات لأي نظام جديد اضافة الى أنه يبقي العراق المقبل وكأنه دولة مارقة ولا يفتح أي باب للأمل لشعب العراق للتخلص من تبعات اخطاء النظام الحالي مثل تعويضات الحرب او حتى في رفع فوري للعقوبات التي تفرضها قرارات الامم المتحدة ورؤية نهاية عاجلة لمسلسل عمليات التفتيش عن الاسلحة.
ثم ان “وثيقة لندن” لا تعطي درساً مفيداً في الديموقراطية التي تشير الى ان الولايات المتحدة تساندها وتدعو اطراف المعارضة الى تبنيها حين تصر على اعتبار مؤتمر المعارضة القادم مجرد “حدث عام” اي ليس اجتماعاً لوضع سياسات وترفض قيامه بانتخاب جمعية وطنية او انشاء حكومة موقتة وتصرّ في فقرتها الاخيرة على ضرورة موافقة المندوبين الى المؤتمر مسبقاً على كل بنود الوثيقة وعلى ان يوافقوا في قراراته على المبادىء التي تضمنتها “وثيقة لندن” ذاتها بالترحيب (بالتصفيق وليس بالتصويت). وعلى رغم امكان الادعاء ان الوثيقة مجرد مساهمة من ديبلوماسين وموظفين صغار تتضمن خطوطاً عامة لمؤتمر المعارضة إلا أنها المرة الاولى التي تطرح فيها الادارة الامريكية رؤية ولو جنينية تحمل عناصر حاسمة لتحديد مستقبل علاقتها مع المعارضة العراقية وايضاً لمستقبل العراق. بل اكثر من ذلك هو ما اسقطته الوثيقة عمداً او ما تجاهلته من مبادىء أو رؤى أو افكار بعضها تشكل أجندات شديدة الجاذبية لأطراف المعارضة كالفيديرالية للأكراد والأسلمة للفصائل الاسلامية الشيعية والعروبية للقوميين والتي ربما ستفاجئهم بخلافها او حتى بنقيضها في وثائق اخرى تعدها مجموعات العمل الخاصة ومنها تقرير “الانتقال الى الديموقراطية في العراق”.
تنتمي هذه الوثيقة الاخيرة، حسب ما تسرب منها حتى الآن، كباقي تقارير مجموعات العمل التي ظهر الكثير من ملامحها – من خلال الافكار التي عبر عنها واضعوها خلال نقاشات جرت حولها في ندوات نظمها بعض معاهد البحوث الاميركية خصوصاً تلك التي اقامها “اميركان انتربرايز انستتيوت” – الى منهج “وثيقة لندن” نفسه في الانفراد والوصاية واحتكار حق اختيار أجندة عملية التغيير، كما انها تستبعد بروحها ومضمونها عملياً وواقعياً الكثير من آماني الشعب العراقي وتطلعاته والكثير مما يرد في برامج اطراف المعارضة وطروحاتها وتملي عليهم خيارات جديدة لمستقبل العراق. فهناك مثلاً اختلاف جوهري بين ما تراه المعارضة ويصرح به قادتها من ان التغيير هي عملية تجري بأيدٍ عراقية ولأهداف عراقية. وبين ما طرحه البعض في الصفوة المنتقاة من عراقيي المنفى المشاركين في مناقشات مجموعات العمل، انها “عملية تحرير اميركية” وانها “توفر فرصة تاريخية للولايات المتحدة لا يضاهيها بالحجم ما حصل في الشرق الاوسط منذ سقوط الدولة العثمانية ودخول القوات البريطانية للعراق عام 1917″، الى غير ذلك من الافكار الخلافية التي تجد تعبيراتها في المواقف من قضايا الفيديرالية، والعلاقات القومية مع الدولة، وفصل الدين عن الدولة، وانتماء العراق لمحيطه العربي، ودور الجيش ونزع سلاحه، ومصير حزب البعث… وكلها قضايا لا يمكن بل يجب ألا تحسم منذ الآن ومنن خلال اي مؤتمر للمعارضة قبل اجراء نقاش وطني عام وواسع يلي عملية التغيير وضمن استفتاء شعبي عليها.
هذه الحزمة من الاشتراطات والافكار والمقترحات والتصورات التي يراد منها ان تتبلور في موقف نهائي ووثائق قبل ان تلعب اطراف المعارضة العراقية “دور ذكر النحل” لتصادق عليها ومن ثم تقدمها الى العراقيين كافة كـ “برنامج وطني للتغيير”، تظهر كأنها مشروع نخبوي وفوقي لإعادة صياغة كاملة للعراق وليس مشروع اعادة بناء وطني، والفارق شاسع بين الامرين كما هو بيّن. فالأول مهما اكتسى بتسميات براقة يظل أقرب الى تلك النماذج المعروفة من استراتيجيات الهيمنة والتبعية والمحاكاة الاستعمارية والتي تتعاضد في تطبيقها قوى كونية ذات طموحات امبراطورية ونخب محلية مصلحية خانعة ومستسلمة لقدرها او ما يمكن توقعه منذ الآن بمشروع للارتباط بالمركزية الاميركية التي تتبلور صياغتها كونياً. بينما يقع المشروع الثاني ضمن الاختيارات التي يصنعها الناس من خلال التفاعل بين اراداتهم الحرة وحكمتهم وقدرتهم على التنظيم الذاتي وتاريخهم وثقافتهم ومصادرهم المحلية. لذلك تبدو الثقة التي يظهرها بعض المعارضين العراقيين في صياغة افكارهم ومقترحاتهم واستعراضهم لها كباحثين وخبراء امام مختبرات البحوث الاميركية التي سرعان ما تحولها الى منتجات او اوراق عمل محلاّة بكل تعبيرات الحداثة والليبيرالية وقابلة للاستهلاك في القرية الكونية هي ثقة تبعث على الحسد حقاً.
الاكثر اثارة للقلق خطط تسرّب عن الكيفية التي ستعالج بها الولايات المتحدة الفراغ السياسي الذي سيحصل عند سقوط النظام. وهي خطط خليطة من دعوات مباشرة للاحتلال او محاولات تجريبية ووصفات جاهزة للتصدير واستعادة نماذج بالية ينتمي بعضها لمدارس الاستشراق المتعالية او لمدرسة نهاية التاريخ الاستئصالية او هي اشد صلة بنماذج التبعية والموالاة المستهلكة تتجاوز جميعها الواقع المحلي شديد التعقيد وتوقعات العراقيين وواجبهم في البحث والاختبار والابتكار وواقع المنطقة وذاكرة اهلها التاريخية. هذه المشاريع التي تروج لحكم تحت ادارة عسكرية اميركية او ادارة دولية لفترة غير محدودة حتى يتم الانتقال الى ادارة عراقية وطنية تهيىء لانتخابات لاحقة تتضافر مع اصرار الادارة الاميركية على اعادة صياغة مبادرات قوى المعارضة الرئيسية والترويج لابتداعات منقحة لمجموعة مقربة من نخب المنفى لا تقدم خيارات حقيقية بمقدار ما تقدم نماذج مستوردة هي أقرب الى وصفة لتكرار الفشل وللفوضى وعدم الاستقرار وربما لأوتوقراطية جديدة من ان تكون علاجاً نابعاً من الحاجة والفعل الوطنيين.
هناك ادراك واسع لدى اطراف عديدة في المعارضة العراقية لهذا التنافر الذي يفصل بين المتطلبات الوطنية لعملية التغير وازالة النظام الشمولي التي اصبحت حاجة ماسة وبين المشروع الاميركي للتغيير في العراق الذي من الواضح انه ينطوي على تحقيق أهداف ومصالح استراتيجية تتناسب مع الامتداد الامبراطوري والتي تستعد الولايات المتحدة لتدشينه عن طريق الحرب المتوقعة ضد العراق. هناك قناعة ايضاً لدى هذه الاطراف بتوفر فرصة فريدة لتحقيق ما عجزت عنه لسنوات طويلة بإسقاط النظام من خلال المشروع الاميركي للتغيير مما يعني تلاقي مصالح الطرفين على تحقيق هدف واحد. غير ان التجربة التاريخية اثبتت قبل اكثر من ثمانين عاماً على ان التقاء اهداف العراقيين والبريطانيين ضد العثمانيين لم ينتج الدولة الوطنية المرجوة بل اصبح نقطة انطلاق لمجابهة السياسات الاستعمارية، كما كان استمرار هذه السياسات وتسخير النخب المحلية لتطبيقها من خلال زجها في مدار التبعية مدعاةً لانطلاق النضال لصالح المشروع الوطني.
لم تكن الازمة العراقية يوماً ازمة عارضة بل هي ازمة وطنية شاملة وعميقة تمتد من فجر الدولة الحديثة وتضرب بجذورها كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وما النظام الشمولي وممارساته التسلطية والقمعية سوى نتاج طبيعي لهذه الازمة المزمنة. نعم هناك حاجة لعملية اعادة بناء كلي للدولة العراقية على اسس حديثة تستجيب لتطلعات الناس وتتلاءم مع روح العصر وغاياته لكن ليس بالقفز على واقع البلد المعقد ومحيطه الاقليمي الحيوي ولا من خلال جعله مختبراً لتجارب تهدف الى ضم المنطقة المستعصية على الضم الى القرية الكونية. وفي هذه المرحلة الحاسمة لا بد من ان ينطلق اي مشروع للتغيير في العراق من دراسة الماضي واخذ العبر منه وإلا سيظهر العراقيون امام انفسهم وامام العالم مثل زوربا في رواية كازنتزاكي الشهيرة حين وقف ليقول “كنت اعلم جيداً ما سيتهدم لكني لا اعرف ما الذي سيبنى فوق الانقاض”.

Controlling the money

By dismissing the chief of the Iraqi Central Bank, Iraqi Prime Minister Nuri Al-Maliki is continuing his attempts at centralising power, writes Salah Nasrawi

The shock ouster of the governor of the Central Bank of Iraq and the issuing of arrest warrants for him and for many of his staff have triggered concerns about widespread corruption in Iraq’s financial and monetary sectors, including fraud, currency manipulation and money laundering.
However, the brazen removal of Sinan Al-Shibibi, a well-known economist who worked for the United Nations for nearly two decades, has also displayed Iraqi Prime Minister Nuri Al-Maliki’s determination to consolidate power by moving to control the country’s vast oil revenues.
Al-Maliki’s government announced on 16 October that it had fired Al-Shibibi, who has held the job for more than nine years, following a probe into the bank’s activities. He was replaced temporarily by Abdel-Basit Turki, head of the Supreme Audit Board.
Ali Al-Moussawi, a spokesman for Al-Maliki, said that the dismissal had come after a parliamentary investigation had disclosed “shortcomings” by the Central Bank’s governor and other staff.
He said that the parliamentary panel had submitted its report to the official Integrity Commission responsible for combating corruption, which in turn had decided to act against Al-Shibibi and nearly two dozen of his staff.
Under a system forged by the previous US occupation authority, the Central Bank started channelling millions of dollars a day through the country’s state banks in order for them to sell to Iraqis importing goods from abroad or planning to travel overseas.
The system is widely seen as being behind a growth in corruption owing to lax regulation and the manipulation of variations in prices between local and foreign currencies. The bank currently sells the dollar for 1,166 dinars, while the market price is around 1,210 dinars.
On Monday, Dananer, an online economic news agency, quoted Haitham Al-Jibouri, an Iraqi lawmaker and member of the parliamentary committee that had investigated the bank, as saying that the panel had found that some $40 billion had been made available by the Bank to traders last year without proper documentation.
Last month a US government watchdog said it believed that as much as $800 million in US dollars was being sent out of Iraq illegally each week, draining the country of hard currency.
The US Office of the Special Inspector-General for Iraqi Reconstruction said in a report that auditors in Baghdad feared that up to 80 per cent of an estimated $1billion leaving the country weekly lacked proper documentation.
This is a huge amount of money, and if the reports are true they indicate an organised system of corruption within Iraq’s monetary and financial bodies.
Before being named to manage the Iraqi Central Bank by the US occupying administration shortly after the US-led invasion of Iraq in 2003, Al-Shibibi worked for the Geneva-based United Nations Conference on Trade and Development.
Al-Shibibi, who is politically independent, comes from a respected Iraqi Shia family, and during the rule of former president Saddam Hussein he spent nearly three decades in exile.
Al-Shibibi, who is currently out of the country, has rejected the accusations made against him and has promised to return to Iraq to face the charges. Many who know him have come to his defense, arguing that he is the victim of a political conspiracy.
Relations between Al-Maliki and Al-Shibibi have been tense for years, and in recent months speculation has arisen that Al-Maliki has been planning to get rid of him and many of his trusted aides. Suspicions now abound that the recent Central Bank affair is an attempt by Al-Maliki to tighten his control of the bank.
Under the current Iraqi constitution, the Central Bank is an independent body and its governor is only answerable to parliament. A law enacted by the American occupation administration in 2004 also gives the governor immunity from prosecution in cases related to the bank’s activities.
Some commentators have suggested that the government’s decision to remove Al-Shibibi is illegal. “It is null and void, because it lacks constitutional and legal foundations,” wrote Wael Abdel-Latif, a former judge and lawmaker on the Sahat Al-Tahreer news website. 
In January of last year, Al-Maliki secured a ruling from Iraq’s high court placing the Central Bank under the authority of the cabinet rather than the parliament, attributing the decision to the predominantly executive nature of the bank’s activities. Many believe that the recent ouster of Al-Shibibi was motivated by Al-Maliki’s desire to exercise more control over the bank’s reserves, which are estimated to reach some $60 billion this year.
The Iraqi media have reported that Al-Maliki sought the overthrow of Al-Shibibi after the latter refused a request from the government to borrow from the financial reserves to cover its expenses.
Al-Shibibi reportedly rejected the government’s desire to draw from the Iraqi currency reserves, as this could decrease the value of the Iraqi currency.
The Central Bank has reportedly also ruled out the revaluation of the dinar by knocking three zeros off the nominal value of banknotes.
While the government wants the measure in order to simplify financial transactions and improve confidence in the dinar and thus eventually boost its value, the bank has been urging caution, saying that the economic climate is not suitable for redenomination.
Analysts believe that behind the arm-twisting from Al-Maliki and his attempt to control the Central Bank stands Iran’s attempts to ease the economic sanctions imposed on the country by the West because of its nuclear programme.
The Iraqi newspaper Azzaman reported on 17 October that the Iranian lobby in Iraq had been responsible for toppling Al-Shibibi. It said that Iraq’s Central Bank had recently limited Iran’s ability to draw hundreds of millions of dollars from the Iraqi market in order to support its economy at the expense of the value of the Iraqi dinar.
The paper quoted unidentified sources as saying that Al-Shibibi and his deputy, Mudhir Saleh, had launched a series of measures binding those who wish to exchange Iranian currency for US dollars to submit their applications to the Bank.
The move was aimed at ensuring that such amounts were used for commercial transactions and were not being smuggled into Iran, which suffers from a significant lack of hard currency.
The Iraqi dinar has also been a casualty of the Syrian crisis, due to the demand for dollars in the country’s sanctions-hit western neighbour. Al-Maliki, who looks at the potential fall of Syrian President Bashar Al-Assad as a development that might strengthen his Sunni Arab and Kurdish rivals in the region, has been appearing to support Al-Assad in terms of coordination and financial and commercial assistance.
While it is hard to accuse Al-Shibibi of being single-handedly responsible for the problems that have hit Iraq’s Central Bank, it is surprising that he has remained in the job for more than nine years despite the rampant corruption in the Iraqi establishment.
Whether Al-Maliki is taking aim at Al-Shibibi or not, Iraqi politics, surreal as it can be, is being further crushed by the weight of the Central Bank scandal.

Analysis & views from the Middle East