قوة الحشود

قوة الحشود
الاهرام 6 يوليو 2013

في معرض احد تعليقاته الأخيرة حول الانتقادات الموجهة لادارته بشأن طريقة تعاملها مع تطورات الاوضاع في مصر علي ضوء خروج الملايين من المصريين المطالبين برحيل رئيسهم قال الرئيس الامريكي باراك اوباما ان سياسة الولايات المتحدة الخارجية لا تتغير بالاستناد الي عدد الرؤوس المشاركة بمسيرات التظاهر.

كلام اوباما, بطبيعة الحال, والذي بدا وكأنه يتحدث عن رؤوس في مزرعة بصل, كان يعكس دون مواربة, وايضا بفضاضة, نظرة التندر او حتي الاحتقار, التي تنظر فيها السياسة الخارجية الامريكية للحشود الجماهيرية والارادة الشعبية في عملية التغيير, علي الرغم من ان الانتفاضات والحركات الجماهيرية استقرت منذ زمن طويل في الفكر والعمل السياسي باعتبارها اداة اساسية من ادوات النضال والتغير.
هذه النظرة الامريكية الاستعلائية ليست جديدة فصناع السياسة الخارجية والاعلام في واشنطن دأبوا منذ زمن طويل علي توجيه النعوت السلبية والشتائم, كالغوغاء والرعاع والحثالة, للحشود الجماهيرية التي لا تأتي تطلعاتها او مطالبها علي هوي التوجهات والسياسات الامريكية, لاسباب يطول شرحها هنا, لكن يمكن اختصارها بكراهية هؤلاء للطابع الثوري والوطني الذي عادة ما تنطبع به هذه التحركات ازاء المصالح الامريكية وتجاه حلفائها المحليين.
في الادبيات المتعلقة بالثورات فان ما من ظاهرة تاريخية اهملها التاريخ الغربي كما يقول المؤرخ البريطاني والمرجع في تاريخ الثورات جورج رودي مثل ظاهرة الحشود التي يراها صانعة التغير الحقيقي من اسفل.هذه الملاحظة بشأن تجاهل الحشود تنطبق بشكل خاص علي الطريقة الاستشراقية التي تتناول بها السياسة والاعلام في الغرب شئون الشرق الاوسط, كما رأها الباحث الايراني يرفند ابراهميان وهو يسجل تاريخ الحشود في بلاده التي نجحت بالاطاحة بنظام الشاه عام.1979
يجدر التنبيه هنا بأن الحشود كوسيلة تعبيرعند الجماهير من اجل التغير وكبنية اجتماعية متماسكة ومتوافقة علي اهداف وطنية هي غير اعمال العصيان او الشغب العفوية او حملات الشحن والتعبئة الهستيرية التي تندرج ضمن استراتيجيات التهيج الجماهيري التي اعتادت عليها الانظمة والحركات الشمولية والفاشية في تجيش انصارها او العوام مستثمرة سيكولوجية القطيع في معاركها وفي تصديها للمقاومة, في حين ان التحشيد هو فعل ادراكي واستراتيجية ايجابية للتغير والنهوض.
لكن بغض النظر عن الموقف الامريكي, الذي لا تخفي عنا دوافعه, فان السؤال الذي يواجه المحللين اليوم, وبالتأكيد المؤرخين غدا, هو هل ان الحشود المصرية التي توجت سلسلة انتفاضاتها منذ ثورة25 يناير بالهبة الجماهيرية الكبري الحالية هي فعلا شيء مجرد وانها لا تصنع سياسة بقدر ما تثير الكثير من الهياج وما يصاحبه من غبار قد يحجب الرؤية الحقيقية للوقائع, ام انها فعل ثوري حقيقي مؤسس للسياسة والتاريخ.
أهمية هذا السؤال تأتي ايضا من السجالات والمحاججات التي انطلقت مباشرة بعد اعلان القوات المسلحة المصرية عن عزل الرئيس السابق محمد مرسي, وخاصة في الاعلام الغربي وبالذات الامريكي, عما اذا كان ذلك انقلابا عسكريا ضد رئيس منتخب ديمقراطيا في مسعي للنيل من الشرعية الثورية التي مثلتها مطالب التحشيد وفي تأجيج ردود افعال مضادة.
لعل نظرة فاحصة للجهود التي خططت ونظمت وادارت الهبة الجماهيرية التي فجرت الموجة الجديدة للثورة المصرية في30 يونية, واقصد بذلك حركة تمرد, تبين لنا انها كانت تراهن بالدرجة الاولي علي حشد الجماهير ودفعها للنزول للشارع للدفاع عن ثورتها وانقاذها قبل فوات الآوان.بالتأكيد ان تاريخ الثورات العالمية سيدون ذلك في سجلاته ولكننا نحن الاحياء قد شهدنا كيف ان المصريين بكل انتماءاتهم وخلفياتهم قد توحدوا في كتلة صلبة, وفي ظروف شديدة التعقيد, في عملية تحشيد جبارة كانت هي الوسيلة الوحيدة المتبقية للتعبيرعن وجودهم.
ان اللجوء للحشد الجماهيري في الحالة المصرية الاخيرة كان الخيار الاخير بعد حالة الاستعصاء التي واجهتها العملية الانتقالية بسبب محاولات الهيمنة التي مارسها الفريق الذي اعتبر ان نجاح مرشحه بانتخابات الرئاسة هو بمثابة تفويض شعبي للتمكين من كامل السلطة في الدولة والمجتمع, كما انه كان مسعي ضروريا لادامة الروح الثورية واستكمال تحقيق اهداف الثورة.
والحقيقة ان الحشود الجماهيرية كانت الاسلوب الامثل والانبل الذي اتبعته الثورة المصرية منذ البداية كأداة جديد وفريدة في حركات التغير والنضال في مصر وفي المنطقة عموما في نهج مغاير لذلك الذي استحكم في الفكر والعمل السياسي العربي لعقود طويلة والذي كان دائما ما يلجأ الي التغير من اعلي كالتغير بالغلبة او بالانقلابات او حتي بالغزو الاحتلال الاجنبي وليس التغير من اسفل من خلال المشاركة الجماهيرية.
ما قامت به عملية التحشيد في الثورة المصرية في صفحتها الثالثة هو تأصيل مشروع الثورة ليس باعتبار ذلك صراعا علي السلطة بين حكام ومحكومين, بل باعتباره ايضا صراعا علي روح وهوية وقيم المجتمع المصري التي واجهت جميعا تهديدا وجوديا علي يد التيار الذي تمكن من الحكم في الفترة الانتقالية والذي لم يخف نيته في تغير كل ذلك وفق برنامجه الذي كان بالتأكيد مغايرا, ان لم يكن نقيضا لاهداف الثورة وبرنامجها.
وما لا يقل اهمية عن النجاح الباهر الذي حققته الحشود في تحقيق هدفها المعلن في اسقاط الرئيس هو اسقاط اخطر مشروع للمنطقة وللعالم كانت عرابته الولايات المتحدة الامريكية وذيولها والذي كان يستهدف اعادة صياغة المنطقة بما يمكن من صعود تيار الاسلام السياسي الي سدة الحكم ليس حبا فيه بل كاستراتيجية جديدة يأتي علي قمة اهدافها تدجين هذا التيار والحاقه بالتبعية الامريكية ودمجه بجهود ما يسمي بعملية السلام مع اسرائيل وتحويله بالتالي الي حارس لاسرائيل وضامن لامنها.
ان خير دليل علي فعالية الحشود وقوتها في هذا السياق هو ان الولايات المتحدة التي استهانت في البداية بحملة تمرد وسخر رئيسها من عدد رؤوس المشاركين في الزحف الذي خرج يوم30 يونية هي التي عادت بعد ثلاثة ايام الي تغير موقفها بعد ان ادركت ان وراء هذه الحشود ارادة شعبية عارمة لن يفل عضدها اي شئ الا بعد ان تنتصر وتضمن تحقيق مطالبها.
هناك كثيرون سيدعون فضلا فيما جري خلال الاشهر والاسابيع والايام الماضية الا ان الحقيقة الاكيدة هي ان الملايين من المصريين التي لبت نداء نزل الي الشارع هي التي استطاعت بالتالي اسقاط مرسي والمشروع الذي جاء به برمته.هناك حقيقة اخري يؤكدها المؤرخ البريطاني جورج رودي في كتابه االحشد في التاريخ وهي تتعلق بموقف الجيش والذي علي اساسه يتحقق مصر الحشد, وهو ما اثبته الجيش المصري حين انحاز للحشود ولخياراتها.

Iraq’s early celebrations

Iraq’s early celebrations

Even if Iraq manages finally to exit from the sanctions imposed after the first Gulf War, their wrecking effects will live on for generations to come, writes Salah Nasrawi
Shortly after the news came through from the UN Security Council last week that its 15 members had decided unanimously to ease some of the international sanctions still in place against Baghdad, a jubilant Prime Minister Nuri Al-Maliki appeared on state-run television to declare victory for Iraq.
Soon afterwards, fireworks lit up the Baghdad sky and soldiers fired bullets in the air to celebrate what a chorus of Al-Maliki government officials described as a “historic and a joyful day” for all Iraqis.
A flurry of celebratory statements also came from rival political leaders, probably to avoid being thought of as unpatriotic, though some voiced scepticism about whether the new resolution would offer a solution to Iraq’s many troubles, including deteriorating security, lingering political conflict and ethno-sectarian in-fighting.
On 27 June, the Security Council decided to bring Iraq one step closer to ending the international sanctions imposed on Baghdad more than two decades ago after former Iraqi president Saddam Hussein invaded Kuwait in 1990.
The sanctions have had momentous effects on the Iraqi people, though at the time they were imposed as a way of forcing Saddam to withdraw from Kuwait.
Under the new resolution, the council terminated provisions in earlier texts relating to Saddam’s invasion of Kuwait that have remained in force despite the toppling of Saddam in 2003 after the US-led invasion.
Iraq has already complied with most of these crippling provisions, including disarmament, new border demarcations and the paying of huge reparations.
The council decided that the remaining issues of missing Kuwaiti nationals and property would now be handled under Chapter 6 of the UN Charter, which calls for the peaceful resolution of disputes.
Another key provision of the new resolution was the council’s decision to transfer the mandate formerly assigned to the High Level Coordinator for Iraq-Kuwait Missing Persons and Property to the UN Assistance Mission in Iraq.
UN Security Council Resolution 2107 stated that council members were acting under Chapter 7 of the UN Charter, which allows for the military enforcement of any measures taken.
However, the Iraqi government insisted that the new resolution removed Iraq from Chapter 7 and hailed this as a historic turning point for a country that had gone through carnage after the US-led invasion in 2003.
It did not come as a surprise that Al-Maliki and his allies would try to take advantage of the new resolution by presenting it as a victory and a political boost, as the embattled prime minister struggles to stay in power in the face of mounting opposition inside the country and isolation outside.
However, Iraq is not the winner under the new resolution. The sanctions were the most comprehensive and devastating of any established in the name of international law, and they brought about the near collapse of Iraq’s infrastructure and compromised the basic conditions necessary to sustain life.
More than one million Iraqis, including half a million children, died in Iraq as a result of the UN sanctions, which were enthusiastically imposed by Kuwait and its two main allies, Britain and the United States.
The sanctions had far-reaching impacts on Iraq’s food, health, water, sanitation and education sectors. The trade embargo destroyed Iraq’s main economic sectors, including industry and agriculture. Because of the sanctions, the Iraqi civilian population was exposed to punishment for something it had not done, while Saddam was allowed to continue to rule over a crippled nation.
Thus far, Kuwait has received about $40 billion in reparations as a result of Iraq’s seven-month occupation of the tiny emirate. Billions of dollars of Iraqi money have also gone to expatriates working in Kuwait to compensate them for the loss of their jobs.
This money was badly needed in Iraq itself to rebuild the war-devastated nation and make up for its wrecked infrastructure.
Under the harsh provisions of the UN resolutions, Iraq lost hundreds of square km of its land, including ports, oil fields and farms, to Kuwait. UN demarcation of the borders and territorial waters ignored Iraq’s desire for greater access to Gulf waters.
Most significantly, the UN resolutions were used as a pretext for using military force against Iraq and subsequently for its invasion and occupation by the United States for nearly 10 years.
Despite all this, the UN has not fully lifted the sanctions against Iraq even 10 years after the toppling of Saddam in 2003 and after Iraq had complied with most of the Security Council’s resolutions related to the invasion.
Iraq is still subject to a UN arms embargo and asset-freeze on individuals and entities linked to Saddam. The country is also still held accountable for finding missing Kuwaiti persons and property, and it is still liable for some $11 billion in reparations to Kuwait.
Kuwait’s claims have raised questions as to whether they are justified, and the issue of the sanctions has repeatedly resurfaced, especially after the US-led invasion and the ousting of Saddam.
Among the Iraqi public, there is little acceptance of Iraqi responsibility for the invasion and little sense that the Iraqi people were responsible for it. Many Iraqis say that the claims arising out of Saddam’s invasion should have been written off once he was toppled.
Accordingly, there has been growing resentment among many Iraqis at the reparations and other measures, which have been perceived as unduly harsh and imposed as a punishment and not as a matter of justice.
Many Iraqis believe that Iraq’s post-Saddam governments should not have to assume the obligation for the entire debt represented by the reparations, since these governments cannot be held responsible for the invasion of Kuwait.
They also believe that Kuwait should accept some of the responsibility for the occupation because the US and other foreign troops invaded Iraq through Kuwaiti territory during the war.
Such disagreements have cast shadows over relations between the two countries and brought back ghosts from the past. Kuwaitis find it hard to forget that Iraq invaded their tiny country and annexed it, calling it Iraq’s 19th province.
On the other hand, many Iraqis claim that Kuwait is indeed a part of Iraq, having been carved off as a result of British colonialism. This notion was used by Saddam to justify his invasion of Kuwait and its subsequent annexation.
Two of Iraq’s rulers before Saddam, King Ghazi and Prime Minister Abdel-Karim Qassim, also maintained a similar stance.
Even after Saddam’s ouster, relations between Iraq and Kuwait remained cool, signalling difficulties over ending outstanding issues. Tensions have escalated along the Iraqi-Kuwaiti border many times over the past ten years, and the consequent political developments have cast long shadows over efforts to normalise relations.
Iraqis have frequently demonstrated at the border and hit back over what they see as Kuwait’s “land grab”. In 2011, clashes erupted between Iraqi protesters and Kuwaiti border guards and rockets were fired from inside Iraq against Kuwait.
In 2011, the two countries were locked in a bitter wrangle over the construction of the Mubarak Al-Kabeer Port by Kuwait that Baghdad says violates the two countries’ UN-demarcated border and encroaches on its territorial waters.
Iraq may now have unloaded most of the burden of Saddam’s invasion of Kuwait, but the question remains of why Kuwait has finally agreed to help Iraq in clearing the hurdles to exit the remaining UN sanctions after nearly two decades of refusing to do so.
Many analysts believe that Kuwait, which has used the UN provisions as a Sword of Damocles hanging over the heads of politicians in Baghdad, has acted under the dictate of new regional political realities.
According to these analysts, the removal of Iraq from Chapter 7 provisions was long overdue and keeping the humiliating sanctions on its northern neighbour amid continuous sectarian turmoil in Iraq and a shift in the regional political landscape would have done Kuwait more harm than good.
A broader analysis shows that Kuwait is worried by the escalating tension in the region over Syria and the rising possibility of a closer Iraqi-Iranian alliance that could pit the Arab Sunni governments in the Gulf against the two Shia-controlled countries.
Given the high risk involved of Iraqi-Kuwaiti relations erupting into another regional flashpoint, Kuwaiti strategists might have preferred to adjust their long-held policy of using the Chapter 7 provisions as a coercive and precautionary measure to stifle any possibility of Iraqi belligerency to opening up to the Baghdad government.

As Iraq still remains shackled by the inhibiting effects of the UN provisions, it remains to be seen, however, if Baghdad’s celebratory mood towards its southern neighbour and Kuwait’s new conciliatory approach will help the two countries overcome their bloody and acrimonious past, or whether it is just another lull in their long-standing dispute.
                                                           صفوة القول (21)
                                                           
                                                           مختارات من اراء وقضايا

سجالات الثقافة العراقية بين ذهنية الاحتراب ونداء وطن محاصر
صلاح النصراوي

الحياة في 25 مايو 2000

يحتدم السجال منذ فترة بشأن واقع الثقافة العراقية المعاصرة، التي تعاني شأنها شأن الحال العراقية برمتها، من ضنك حصارات بعضها ناتج من حصاد تجربة سياسية واجتماعية واقتصادية خائبة ومريرة وصلت الى حدود التدمير الذاتي، وبعضها عن عملية التدمير المنظم متعددة الأبعاد التي فرضتها أسوار الفصل العنصري المحيطة بالعراق تحت راية عقوبات الأمم المتحدة وبعضها الآخر ناتج من حصار المنافي الضيقة والنائية.
 هذا السجال يستعر الآن بين طرفين أفرزتهما تلكم الحصارات، احدهما يدعي تمثيله للثقافة العراقية، مستمداً دعواه من صموده داخل تلك الأسوار وأمام افرازات الصراع ببعديه الداخلي والخارجي، وانخراطه في معركة الوجود المادي والثقافي على أرض الوطن، بينما يعلن الطرف الآخر من منافيه البعيدة عن مشروعيته التي صاغتها معاناة مغامرة البحث الدائم عن الحرية ومقاومة سياسات القمع والاكراه وتشبثه في دوره الرائد وحقه في المشاركة الفاعلة في تجديد واعادة تأسيس الثقافة العراقية على أساس مشروع وطني ونهضوي.
 وكما هي العادة المدمرة التي رسختها التجارب السياسية الخائبة وذهنية الاحتراب القبلي والانتقام التي افرزتها فان المناظرات القائمة حول راهن ومستقبل الثقافة العراقية امتدت لكي يكيل طرف من اصحابها الى آخر الاتهامات التي راوحت بين الخيانة والجبن والصمت ازاء المعاناة الوطنية والوصاية كما يراها بعض مثقفي الداخل الذين عبروا عن آرائهم في هذا الحوار، وبين الاتهامات بالخيانة أيضاً والعمل الاستخباراتي وممالأة السلطة والتدجيل والتطبيل وحرق البخور لها على حساب الضمير الاخلاقي والالتزام بقضايا الوطن الكبرى والمصيرية، كما أعلن عنها بعض مثقفي المنفى.
هناك بالتأكيد أبعاد كثيرة مغفلة في هذا الحوار الدائر على صفحات الجرائد العراقية والعربية. فالواقع العراقي بقدر ما هو كارثي، بالمعنى الحقيقي للكلمة، فإنه أيضاً ملتبس ومضطرب، ذلك أن الدلالات المتوافرة لا تشير الى إمكان تغير ايجابي كبير يمكن أن يحصل قريباً لينتشل الوطن العراقي من محنته ويزيل من أمامه عوائق النهوض من رماد الحصارات ويعيد وضعه على سكة التقدم الإنساني.
 هذا الواقع يضع على كاهل المثقفين العراقيين مهمة أخرى غير تلك التي يضطلع بها “سياسيوهم” وهي القيام بدورهم الطليعي الاخلاقي والوطني في التحريض على البدء بعملية إعادة اكتشاف للذات هدفها ان تفضي الى عملية اعادة البناء لا الاندفاع العشوائي مجدداً نحو ممارسة اللعبة المدمرة التي اصابت الوطن بالمحن وأورثت ابناءه هذا الكم الهائل من المعاناة والحسرة والحيرة والكبت.
لذلك فإن المطلوب هو البحث من خلال الحوار الرصين عن أجوبة تتعلق بأزمة الثقافة العراقية بشقيها الداخلي والمنفى بعيداً عن ذلك الطابع المتوحش الذي تفرضه السياسات الفجة وأساليبها سواء منها تلك التي تلجأ الى العنف المادي والمعنوي لكتم الاصوات الاخرى أو تلك الضاربة في الغضب والتجريح واللعنة. إن أولى المسلمات هذا المسعى هو ضرورة الكف عن النظرات الأحادية ودعاوى احتكار الحقيقة والتخوين التي الحقت اشد الضرر بالثقافة العراقية والايمان بأن أي ثقافة وطنية هي بالتالي نتاج المشاركة والتفاعل بين الافكار، التي هي بدورها نتاج انصهار انماط من القيم والمعتقدات والتفسيرات العقلية والرموز الثقافية والاجتماعية، او ما يمكن اختزاله بالخبرة التاريخية التي يختزنها أي مجتمع أو خلفية قومية ودينية وطائفية متنوعة، وفي حال الواقع العراقي فإن أكثر ما ألحق الضرر بالثقافة هو النكران المتعسف لوجود هذا التنوع داخل الثقافة الواحدة وبخاصة ذلك الذي مارسته مراكز القوى السياسية والايديولوجية.
ثانياً، ان ما أصاب المجتع العراقي نتيجة التشوهات النبوية التي الحقتها الحصارات هو تعميق تناقضاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ما سيجعل بالحاجة الى اعادة دمج الافراد بالمجتع، وهي مهمة لن تنهض بها الا ثقافة وطنية تضع على عاتقها مهمة بناء تصورات للمستقبل تقوم على تضميد جروح الماضي وإزالة ندوبه والسمو على احقاده وضغائنه، إن مثل هذه الوظيفة لا بد ان تنطوي بصورة ضمنية على ضرورات حفز إبداء الندم كواجب اخلاقي، من قبل كل أولئك الذين تسببوا بهذه المعاناة الانسانية، كمقدمة لعملية مصالحة وطنية شاملة تقوم على مرتكزين، تحقيق العدالة والتسامح.
ثالثاً، ان المهمات المناطة بالثقافة العراقية تتجاوز المفهوم الذي ظل سائداً لدى أطراف الصراع السياسي كونها ساحة للجدل الحزبي المتعارض وأداة للتعبئة الجماهيرية، فعلى رغم ان النشاط الثقافي، في بعض أوجهه، وهو عمل سياسي إلا أن ذلك يجب ألا ينحط به، كما حصل دائماً لكي يجعل من الثقافة ميداناً آخر للصراع السياسي ويغرقها، كما يحصل الآن، في جدل الداخل – الخارج والوطني – الخائن، وغيرها من الثنائيات التي لا تخلط السياسي بالثقافي فقط، وانما تؤسس لاستمرارية التناقضات التي ينبغي دفنها مع ولادة عراق جديد.
رابعاً، ينبغي السعي منذ الآن الى النظر في اعتماد أدوات ثقافية جديدة واخراج الثقافة من أدراج المؤسسات الرسمية والحزبية التي حبست بها طويلاً ومن دائرة المزايدات ودفعها للهواء الطلق حيث تتوافر القدرة على الاكتشاف بعيداً من يقين وقوانين المؤسسات الخالية من اجواء الحرية والغفران والتسامح. وفي هذا الإطار فإن الاجيال الشابة من العراقيين وبخاصة الذين استطاعوا ان يتجاوزوا محن المنافي، اضافوا رصيداً قيماً للثقافة العراقية من خلال امكان مزجهم الخلاّق بين تراثهم الثقافي ومكتسباتهم الجديدة من النظام العقلي الذي نهلوا منه في منافيهم والذي سيمكنهم، حين تتوافر لهم الفرصة، من المساهمة، ليس فقط في عملية اعادة البناء المؤملة، ولكن في جذب ودفع روح التحديث والنهضة.
عموماً فإن السجال الجاري هو أحد مؤشرات استمرار أزمة الثقافة العراقية التي هي دورها انعكاس للأزمة الوطنية الشاملة ما يعني ان معترك العمل الأشمل سيظل هو العمل على إحداث التغيير من خلال استنباط حلول وتصورات للإصلاح وإعادة البناء، وهي مهمة ينبغي ألا تترك للسياسيين وحدهم، كما لا ينبغي احتكارها من قبل فريق واحد أو جماعة معينة، بل ينبغي ان تتم من خلال حوار مفتوح وجهد تعددي ومناقشات جادة.
 لقد مضى الى غير رجعة عهد احتكار الحقيقة واحتكار الوطن وأن الثقافة هي وحدها الميدان الأسمى لتبادل الأفكار واحتضان الابداع ودعم الابتكار الخلاّق وبناء الرصيد المعنوي لاعادة إعمار الوطن العراقي وفتح السبيل أمامه للانضمام الى قافلة الحضارة العالمية الماضية نحو المستقبل. إن على عاتق المثقفين العراقيين مهمة صعبة وهي تهيئة أنفسهم للمشاركة الايجابية في إعداد استراتيجية للنهوض من خراب الحصارات الى عصر جديد سيولد من مخاض الألم والضغائن والحرمان.
قد تدمغ مثل هذه الدعاوى أصحابها بالرومانسية أو بالحلم أو حتى بالسذاجة. ولكن التجربة التاريخية اثبتت مرة بعد أخرى أن العقل الواعي، الذي هو جوهر كل الثقافات الحية هو وحده الكفيل بدراسة منعطفات التاريخ الكبرى وفهم ظواهرها ومن ثم اختراق مساحات الصمت والتبشير بالحلول الصائبة لها. وفي الحال العراقية الراهنة فإن أكثر مستلزمات الوعي هو الشفافية وضرورة تملك الملكة النقدية التي تحتاجها عملية المساءلة والتصحيح التي يتطلبها الكشف عن المنعطف الآتي قبل ان يبدأ العراقيون نحته في صوان الزمن القاسي.
 إن من الخير للمثقفين العراقيين أن يبدأوا حواراً يمتد من المنافي البعيدة ومن تخوم الوطن حتى قلبه، غايته تفحص السبل التي تقودهم الى تبوء عملية الكشف هذه وتحفز الجدل العام بشأن الخيارات الممكنة، من أن يتركوا المعترك مرة أخرى للأدعياء الذين يملأونه بالضجيج، أو لأولئك المتربصين الذين يتوقعون دائماً ان يكونوا في المقدمة، ولا بأس من أن تكون البداية البحث عن جواب للسؤال الذي من المؤكد أن تثيره هذه المساهمة: وهل هذا ممكن في وضعنا الذي يتصف بمزيج من العبث واللاجدوى واليأس والانتظار.
*
Iraqi Shia dilemma in Syria
Talk about the involvement of Iraq’s Shias in Syria could be inflated, but their strategy in the country’s war-torn neighbour also seems to be in doubt, writes Salah Nasrawi

Reports that Iraq’s Shias are joining Lebanese Hizbullah fighters and Iranian advisors in the war in Syria to support President Bashar Al-Assad’s regime are mounting amid increasing concerns that the conflict in Syria is turning into a regional sectarian struggle between Sunni and Shia Muslims.
The news came as the crisis in Syria has been escalating and driving western powers and regional Sunni heavyweights more decisively into the civil war in Syria by arming and training the mostly Sunni rebels who are waging a struggle to topple Al-Assad’s Alawite regime.
Yet, the scope of the Iraqi Shias’ involvement in the Syrian quagmire remains a mystery amid accusations of exaggerated reports and signs that the Baghdad Shia-led government is lacking a coherent and a well-defined strategy to deal with the conflict in the neighbouring country.
Since the uprising against Al-Assad began, the Iraqi Shia-led government has been uneasy about dangers that the Syrian crisis might spill over into Iraq. Baghdad has been worried about the prospect of the opposition in Syria winning a victory over Al-Assad’s regime could widen the sectarian divide in a nation still dealing with its own confessional strife.
The Baghdad government has repeatedly said that it remains neutral in the conflict and has urged a peaceful solution to the uprising. This policy has seemed to be designed to prevent the growing instability in Syria adding to concerns over Iraq’s own volatile situation.
But the increasing reports about Iraqi Shias flocking to Syria to fight Al-Assad has raised questions on whether the Iraqi Shia-led government is being gradually drawn into the conflict, contradicting its policy of neutrality.
In recent weeks, various press reports have suggested that Iraqi Shias are joining the government side in the war in Syria in increasing numbers. They say that Iraqi Shia volunteers are receiving weapons and supplies from the Syrian and Iranian governments, and that Iran has organised travel for Iraqi Shias willing to fight in Syria on the government side.
According to the reports, three main hardline Shia groups, the Mahdi Army, the Asaib Ahl Al-Haq and the Kataaib Hizbullah, are all sending volunteers to Syria, some by road from the Shia holy city of Najaf and others via Baghdad airport.
Estimates put the number of Iraqi Shia fighters in Syria from 600 to more than 1,000, with around 50 fighters crossing the border every week.
Iraqi Shia Prime Minister Nuri Al-Maliki told Al-Arabiya satellite news channel on Sunday that his government did not sanction the movement of Iraqis and weapons supplies to the Al-Assad regime.
On Monday, Syria’s foreign minister Walid Al-Muallim also denied movements of Iraqi Shias into Syria, although he acknowledged the Lebanese Hizbullah’s participation in the fight against the rebels.
Iraq’s Kurdish Foreign Minister Hoshyar Zebari said the numbers of Iraqi Shia fighters in Syria were inflated.
Last week, a key Iraqi Shia minister warned that thousands of Shias from Iraq would take up arms against Sunni extremists if Shia shrines in Syria came under attack.
Hadi Al-Amiri, also head of a small Shia movement, said in an interview with a Western news agency that it would be impossible for Iraqi Shias to “sit idly by” while the United States and its western and Arab allies were arming and financing the  mainly Sunni Syrian rebels.
Al-Amiri seemed to be speaking the minds of many Iraqi Shias who have criticised Western and Arab countries for increasing their weapons delivery and training of the rebels, while deeming the sending of Iraqi men to fight Al-Assad to be unacceptable.
Indeed, just as the Western media was rushing to publish reports about Iraqi Shias flocking to Syria to fight on Al-Assad’s side, the news about Syrian rebels receiving arms supplies was also particularly abundant.  
Syrian opposition groups have been receiving weapons from some Arab countries, namely Qatar and Saudi Arabia, with the assent of the Americans and other Western powers.
Recent studies have also shown that thousands of Sunni jihadists, mostly affiliated with the extremist Jabhat Al-Nusra Front, are taking part in the fight against the Al-Assad regime.
On Saturday, the Friends of Syria Group, which includes the US, Britain, France and Germany, as well as Saudi Arabia, Turkey, Egypt and Jordan, announced that it would provide urgent support to rebels fighting Al-Assad.
Qatar’s Prime Minister and Foreign Minister Sheikh Hamad bin Jassim bin Jaber Al-Thani, who hosted the meeting in Doha, interpreted the decision as “providing arms” to the rebels.
The New York Times unveiled last week that Qatar had been busy shuttling arms stockpiles to the rebels in Syria from Libya. It said that Qatari C-17 cargo aircraft had made shipments from Libyan airports to the US built Al-Udeid Air Base in Qatar, before the cargos were flown to Turkey to be delivered to the rebels inside Syria.
The British Daily Telegraph also reported that Saudi Arabia had been providing the militants in Syria with heavy weapons, including anti-tank missiles which have already been used to destructive effect and may have held up a promised regime assault on Aleppo, Syria’s second-largest city.
On Friday, the Los Angeles Times reported that CIA operatives and US special operations troops had been secretly training Syrian rebels with anti-tank and anti-aircraft weapons since late last year, saying that the US had increased its assistance to the rebellion.
The covert US training at bases in Jordan and Turkey began months before US President Barack Obama approved plans to begin directly arming the opposition to Al-Assad.
Iraq’s critics seem to be outdoing themselves, since their intervention in Syria is now far-reaching and decisive and entails strategic goals such as influencing events and reshaping the map of the entire Middle East.  
This leads to the inevitable question of whether the Iraqi Shias have a strategy on the complex situation in Syria, or whether they are following haphazard and uncontrolled reactions, as they increasingly feel threatened by the prospect of a rebel victory in Syria.
It is important to remember that Iraq’s Shias are no fans of Al-Assad, who they accuse of helping to fuel Iraq’s civil war by permitting weapons and fighters to stream across the border following the removal of the former Saddam Hussein regime.
Also, and contrary to common misconceptions, Twelver Shias, the followers of the mainstream Shia branch in Iraq and Iran, do not recognise the Alawites as their co-religionists, and some even believe they are heretics.  
Most Iraqi Shias have no love for the Baath Party that ruled Iraq during the Saddam era, and they associate it with Al-Assad’s ruling Syrian Baath Party.
It is equally necessary to underline that while Iraqi Shias could be seen as aligned with Iran to face up to perceived threats by Sunni Arabs, they can hardly be accused of being Iran’s stooges or even of seeing eye-to-eye with Iran on all issues.
If mutual interests or political bonds between the Iraqi Shias and the Syrian regime are excluded, a major reason for the Iraqi Shias aiding the Al-Assad regime remains their fear that a collapse of Syria would fragment Iraq along sectarian lines, possibly bringing to power extremist Sunni rule hostile to Baghdad.
In the light of this, the Iraqi Shia strategy vis-à-vis Syria over much of the past two years has sought less to be directly involved in Syria’s civil war than to fend off its sectarian spill-over.
Unlike the Lebanese Hizbullah group, which has a powerful and well-trained military machine, as well as obligations to fight alongside the Al-Assad regime, the Iraqi Shias are short of the military capabilities required to influence events in Syria and they are less motivated to take such risks.
The Iraqi Shias in Syria are mostly unorganised small groups of volunteers inspired by fiery sectarian rhetoric or driven to defend Shia holy shrines in Syria, some of which have already been vandalised by extremist Sunni rebels.
As for the Iraqi Shia-led government, it does not seem inclined to become heavily involved in Syria, a move that would exacerbate sectarian tensions in Iraq and complicate its relationships with the United States and other western and regional powers that are leading efforts to topple the Al-Assad regime.
While the war in Syria remains a critical issue for the Iraqi Shias, as it continues to sharpen sectarian divides, their dilemma remains the lack of options to forge a creative vision and a workable strategy that could help them to deal with the inevitable end of the Al-Assad regime.
صفوة القول (20)
مختارات من اراء وقضايا

من النفط مقابل الغذاء الى النفط مقابل العراق
صلاح النصراوي
جريدة الحياة 19 ديسمبر 1999
 تفرض أحداث الحاضر احياناً ضرورة العودة الى أحداث الماضي لمحاولة إجلاء غموضها وفك طلاسمها، سواء من خلال تفكيكها الى عناصرها التاريخية أو من خلال ربط المقدمات بالنتائج، أو حتى من خلال قوة المثال الذي يطرحه الماضي على الحاضر والذي طالما يجعلنا نردد في أوقات وحالات المقارنة هذه مقولة ما أشبه اليوم بالبارحة.
لعل من الأمثلة الحية التي نعيشها وتجد لها شبيهاً في التاريخ هي المحاولات التي بذلت طوال عام في مجلس الأمن لإصدار قرار في شأن تعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق والتي اصطدمت تباين وجهات النظر بين الدول دائمة العضوية ليس في شأن موضوع نزع اسلحة العراق غير التقليدية ونظام الرقابة المقترح عليها، كما هو معلن، بل بسبب آخر مختلف تماماً يتمثل في نيات هذه الدول ومخططاتها في شأن استثمار الثروة النفطية العراقية الهائلة، التي باتت “جوهر” و “لب” عملية الصراع في المنطقة.
في ربيع العام 1920 كان مستقبل العراق حُسم وفقاً للمخططات البريطانية التي حددت استناداً الى نص المادة 22 من معاهدة السلام في فرساي، على أساس خضوع العراق للانتداب البريطاني. ففي 25 نيسان ابريل 1920 اصدر مجلس التحالف الأعلى قرار فرض الانتداب إثر سلسلة من الاجتماعات عقدها في منتجع سان ريمو الايطالي بحضور ممثلي الدول الرئيسية في التحالف عدا الولايات المتحدة التي هالها أن ترى في ما بعد أن حلفاءها البريطانيين والفرنسيين ضربوا بعرض الحائط مبادئ اتفاق “فرساي” الذي نص على اتباع سياسة الباب المفتوح أمام المصالح الاقتصادية للدول المتحالفة في الاراضي تحت الانتداب حين أقروا لأنفسهم امتيازات وحقوقاً هائلة في المصالح النفطية، مستبعدين تماماً الولايات المتحدة التي كانت وقفت معهم للتو في الحرب التي خرجوا منها منتصرين.
فماذا فعلت الولايات المتحدة حينذاك؟ في 12 آيار مايو 1920 أي بعد أقل من ثلاثة اسابيع على اتفاق “سان ريمو” كتب السفير الاميركي في لندن جون ديفز الى وزارة الخارجية البريطانية رسالة شديدة اللهجة محتجاً على ما دعاه ب “الاتفاق التعيس” الذي اعطى فوائد كبيرة للمصالح النفطية البريطانية والفرنسية على حساب المصالح النفطية الاميركية، كما اتهم بريطانيا بمحاولة فرض “هيمنتها المطلقة” على الموارد النفطية في المنطقة التي وصفها بأنها سـتكون “مصدراً للتوتر والخلافات” بين الطرفين.
لم تقبل بريطانيا بالتنديدات الاميركية، وكتب وزير خارجيتها اللورد كيرزن رداً نفى فيه الشكوك التي اثارها السفير الاميركي ووصفها بأنها حساسية غير مفهومة. كما ذكّر الولايات المتحدة بأنها تسيطر على حوالي 80 في المئة من مصادر النفط في العالم، في حين ان ما في حوزة الشركات البريطانية من مصادر للنفط لا يتجاوز 5،4 في المئة. كما ذكّر الخطاب بالمحاولات المستميتة للولايات المتحدة لمنع بريطانيا من استثمار امتياز نفطي في هايتي كانت حصلت عليه العام 1913، وصادقت عليه حكومة هايتي قبل الاحتلال الاميركي للجزيرة. وهو أمر تكرر، على حد تعبير اللورد كرزن، في كوستاريكا، وبعد ذلك، كما عبّر في رسالة لاحقة، في الفيليبين التي كان صدر فيها تشريع في 31 آب اغسطس عام 1920، يشترط أن تحصر كل الاراضي التي تحتوي على النفط والزيوت المعدنية الاخرى بمواطني الولايات المتحدة او الفيليبين.
استمرت هذه المجادلات عبر رسائل متبادلة بين اللورد كيرزن ووزير الخارجية الاميركية بينبرغ كولــبي ووصفت حينذاك بأنها إحدى أهم المواجهات الديبلوماسية التي حدثت بين القوتين الجبارتين في مطلع هذا القرن، إن لم تكن أهم مجابهة في دنيا الاستـــعمار الاقتصادي حصلت في التاريخ الحـــديث. حاولت الولايات المتحدة عبر الصراع ان تؤكد نيتها بأن تضع نفسها في موقع الشريك الاساسي للقوى الاستعمارية التقليدية في ذلك الوقت وبخاصة بالنسبة الى موادر النفط التي أخذت تحل محل الفحم كوسيلة رئيسية للطاقة. ولعل ما سهل للولايات المتحدة الظفر بعد ذلك بحصة مهمة في امتيازات النفط العراقية هو ارتباط الصراع بمشكلة ولاية الموصل التي لم تكن حسمت حينئذ بسبب استمرار ادعاء تركيا تبعيتها لها وحاجة كل من بريطانيا، بلد الانتداب، والعراق البلد المنتدب، للتأييد الاميركي، داخل عصبة الأمم لتمرير صك الانتداب وحل مشكلة الموصل بعيداً عن الاطماع التركية.
نتيجة كل ذلك كانت اتفاقاً وقعته الحكومة العراقية تحت الانتداب وشركة النفط التركية صاحبة امتياز نفط العراق في 14 آذار مارس 1925، والذي حصلت بموجبه الولايات المتحدة على حصة مساوية لحصص بريطانيا وفرنسا وهولندا في شركة “نفط التركية” التي تحولت بعد ذلك لتصبح “شركة نفط العراق المحدودة” التي منحت امتيازاً للتنقيب في كل الاراضي العرقاية لمدة 75 عاماً، إذ انجزت الولاذات المتحدة اتفاقات التراضي بينهما كان صراعاً آخر أخذ ينفتح للتو على مصراعيه مع اول برميل تدفق في منطقة حقوق بابا كركر في كركوك يوم 13 تشرين الاول اكتوبر 1927، إذ بدأت الانظار تتركز على هذه البعة من الارض باعتبارها اصبحت من ذلكح التاريخ بؤرة الصراع الدولي من أجل الطاقة شريان الحياة وعصب الاقتصاد الحيوي.
لو انتقلنا الآن أكثر من سبعين عاماً الى الأمام لرأينا صورة أخرى لكنها ليست مختلفة تماماً في جوهرها عن صورة الصراع الذي جرى مطلع هذا القرن حول نفط العراق، ولو ألقينا نظرة فاحصة الى مكونات هذه الصورة لاتضح لنا بعض تفاصيلها على الشكل الآتي: يتكون احتياط النفط العراقي المؤكد من نحو 200 بليون برميل، بينما كانت تقديرات احتياط منطقة ولاية الموصل عند بداية الاستثمار نحو أربعة بلايين برميل فقط، وهو فرق يوضح الأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها النفط العراقي على خارطة الاستثمار الدولي. من بين تفاصيل الصورة الأخرى نرى كيف ان الولايات المتحدة تقف في الموقف نفسه، الذي كانت تقف فيه بريطانيا بداية هذا القرن، كقوة مهيمنة متحكمة بينما تقف كل من فرنسا وروسيا والصين كقوى متطلعة للمشاركة في استثمارات النفط التي لا تخفي الولايات المتحدة حرصها على فرض سيطرتها عليها واحتكارها. ولكي تكتمل المقارنة، فلا بد من توضيح أن كلاً من فرنسا وروسيا والصين وقعت فعلاً عدداً من اتفاقات الاستثمار المهمة مع العراق وتنتظر للبدء في تنفيذها رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق منذ العام 1990، وهو قرار الذي لا تزال ترفضه بشدة الولايات المتحدة الامـــيركية وتماطل فيه من أجــل تأخــــير تنفيذه.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد كل ذلك هو: هل يعيد التاريخ نفسه وتتكرر تجربة سان ريمو وما تلاها في ضوء المشاورات التي جرت لتبني القرار الجديد لمجلس الامن في شأن العقوبات المفروضة على العراق ونظام جديد لمراقبة التسلح؟ هناك من المعطيات ما يشير إلى أن الصعوبات التي مرّت بها جهود إقرار القرار الجديد ليست فقط تبايناً في وجهات النظر بين الدول المعنية حول الموقف من نظام الرقابة على التسلح العراقي بمقدار ما هو تباين في النظرة الى مستقبل العراق ككل والاقتناع المتزايد لدى معظم الأطراف بأن الأوان حان لحسمه من خلال صيغة توافق عامة، أو بعبارة أوضح صفقة مع الولايات المتحدة باعتبارها أكثر الأطراف اهتماماً بالوضع العراقي، وأصراراً على تحديد مستقبلة.
لقد كُشف النقاب فعلاً عما سمي بـ “صفقة الشيشان مقابل العراق” بين واشنطن وموسكو والتي بموجبها تغض الولايات المتحدة النظر عن الهجوم الروسي الشامل على الشيشان مقابل تأييد روسيا للقرار الجديد. لكن واقع الحال يشير إلى أن الصفقة المرجوة، في نظر روســيا، تتجاوز قضية الشيشان لتشمل مستقبل الاستثمارات النفطـــية الروسية بموجب العقود التي وقعتها شركة “لوك اويل” الروسية مع العراق وتغطي حقول غرب القرنة الجبارة جنوبي العراق، واذا كانت هذه اجزاء الصــفقة التي تخـــص روســــيا فماذا عن شركتي “الف اكيتان” و”توتال” الفرنسيتين والامتيازات التي حصلتا عليها في حقول “مجنون” و”نهر عمر” وأيضاً شركة النفط الوطنية الصينية والامتيازات التي نالتها في حقلي “الحلفاية” و”الاهدب”… ان مجموع الاحتياطي الذي تسعى هذه الشركات التابعة للدول الثلاث للهيمنة عليه، بموجب الاتفاقات التي وقعتها مع العراق، يبلغ 50 بليون برميل بينما تبلغ الطاقة الانتاجية المتوقعة للحقول 1،2 بليون برميل يومياً، وهي أرقام يمكنن ان توضح حجم الصراع المنتظر الذي لن يكون أقل شراسة من ذلك الذي جرى بين بريطانيا والولايات المتحدة بسبب اشتراطات اتفاقية “سان ريمو“.
لقد وافقت حكومة ياسين الهاشمي حينها على اتفاقية الامتيازات رغم الاعتراضات الشعبية واستقالة اثنين من أبرز اعضائها، رشيد عالي الكيلاني ومحمد رضا الشبيبي بسبب ما قيل من حاجة العراق حينئذ لدعم الحلفاء في قضية الموصل التي كان الصراع من أجلها مع تركيا دخل في مرحلة حاسمة. السؤال الآن هل سيجد العراق نفسه مضطراً الى قبول الصفقة النفطية التي طبخت على نار النقاشات الجارية في مجلس الأمن وخارجه كما حصل عام 1925؟.. الجواب عن ذلك سيكشف اذا كان التاريخ سيعيد نفسه فعلاً، وإذا كان العراقيون تعلموا من دروسه وعبره. ما هو مطروح هذه المرة ليس “النفط مقابل الغذاء” بل “النفط مقابل العراق كله”؟

Analysis & views from the Middle East