منذ عدة سنوات قمت بترجمة رواية الكاتبة الفرنسية الاسرائيلية فاليري زيناتي “عندما كنت جندية” بعد ان قرأتها بالانكليزية واثارت انتباهي شكلاً وموضوعاً.ورغم ادراكي للمواقف المعارضة لترجمة الادب الاسرائيلي الى العربية الا اني كنت، ولا ازال، اعتقد ان الاعتراضات بشأن نقل ذلك الادب الى لغتنا لا تتسم بالحكمة ولا بالموضوعية وهي تدخل اما في خانة الجهل والغباء او في خانة المزايدات المبتذلة التي عانت منها القضية الفلسطينة على مر تاريخها المرير.تقدمت الى احد الناشرين البارزين في القاهره بالترجمة لطبعها الا انه لم يتكلف حتى بالرد وعذرته لاني كنت متيقنا من خشيته من السهام التي قد تطاله، ولم اكرر التجربة.ثم جاءت الثورات العربية واخذت من مشاغلنا بها ومن حياتنا ما أخذت حتى نسيت تلك الترجمة وخشيت ان تختفي من ملفات الحاسوب او يطوي نسختها الورقية الغبار.وها انا اقدمها هنا على مدونتي متسلسلة، متحملا كل مسؤولية ادبية وسياسية واخلاقية عن ذلك.لقد عشت حياتي كلها لصيقا بقضية فلسطين ومأساة شعبها وفترات طويلة قريبا من فصائلها المناضلة ومن قيادتها التاريخية واخالي اجزم ان من ضيع فلسطين والحق بشعبها تلك الكارثة هي الحماقة التي اعمت اجيالا من العرب عن معرفة الاسرائيلي وكيف يفكر ويعمل وهي المقاربة التي كان ينبغي ان تصدم كل عربي منذ ان قال موشي ديان ان العرب لا يقرأون..
دولة علي بابا
في تشريح سلطة الفساد والمحاصصة في العراق
(3)
الفساد انتقام امريكا من العراق
منذ الغزو الامريكي للعراق عام 2003 والسؤال الذي يتردد على الالسن هو ما هي الاسباب الحقيقية للغزو غير الاكاذيب بشأن اسلحة صدام والكلام الاجوف عن تحرير العراق منه.الجواب كان دائما هو حتى تفتح ملفات الارشيف الامريكي فلن يكون بالامكان التعرف على تلك الاسباب او الدوافع ومعرفة مكنوناتها الحقيقية.تلك هي الاجابة من وجهة نظر التاريخ الذي بامكانه ان ينتظر ما يشاء من الزمن، ولكن من وجهة نظر الحاضر فان الاجابة قائمة في شواهد الواقع الذي عليه العراق الان الذي هو ليس الا خرابة تقوم على انقاض دولة وكيان ومجتمع بشري وركام من المعاناة والالالم والمخاوف والقلق.
السؤال الثاني الذي يستتبع التساؤل الاول هو:هل كانت هذه النتيجة اي تدمير العراق كدولة وكيان، عملية مقصودة ومبيتة ومنظمة، ام كانت ناتجا عرضيا بسبب الاخطاء العديدة القاتلة التي ارتكبت سواء بطريقة تنفيذ الغزو او في ادارة الاحتلال؟هنا ايضا تقف كل شواهد الحاضر لتؤكد بما يقطع اي شك باليقين بان تلك كانت جريمة تدمير شامل، ان لم تكن ابادة جماعية لوطن، مع سبق الاصرار والترصد مكتملة الاركان ارتكبها مخططون ومنفذون ومبررون اصبحوا الان معروفين كل بالدور الذي قام به.
هناك الكثير من الوقائع والنتائج المتحققة التي تثبت وقوع تلك الجريمة الا ان الفساد بكل انواعه يقف كاحد ابرز تلك الادلة الدامغة لان نتائجه وتبعاته واضحة العيان كما انها ستبقى تعيش مع العراقيين سنوات، بل عقود، طويلة وستترك اثارها على اجيال عديدة منهم.ان الشاهد على ذلك يتجلى بنظام المحاسيب (cronyism) الذي اقامه الاحتلال وتركه لزمر من الخانعين والمتعاونيين معه والذين لا يزالون يقبضون على ناصية الحكم ويقيمون نظاما تنعدم فيه الفضائل الاخلاقية ومغرق بالفساد الذي يغذي بدوره حالة الفوضى والعنف المستشرية بالبلاد.
ان وراء مفهوم “دولة علي بابا” الذي روجه الاحتلال منذ اول لحظة له على الارض العراقية تقوم صناعة امريكية متكاملة سعت لاقامة هيكل اقتصادي لاعادة توزيع شامل للدخل والملكية والادارة والانتاج عبر خلق اوليغاركية تابعة تركت لكي تغرس جذورها عميقا في التربة العراقية الى فترة طويلة.ونظرة متفحصة للواقع العراقي ترينا كيف ان نظام المحسوبية والشللية والزواج بين السياسة والمال الان هو الذي يهيمن على العقود والمقاولات والتجارة والبنوك والاستثمار مع ارتباط مركينتلي كامل بالمنظومة الاقليمية والدولية.
في الفترة الاخيرة افتضحت احدى “حكايات علي بابا” واصبحت اكثرها شهرة بسبب ما كشفت عنه ايضا من ارتباط عنكبوتي بقضية الامن وادارة الدولة وهي حكاية نمير العقابي.كان عالم المال والسياسة والمخابرات في دول المنطقة واوربا وامريكا يعلم بحكاية العقابي ويتابعها بتفاصيلها غير المسلية في حين كان المسؤولون العراقيون يمارسون عاداتهم بالخداع والتضليل حتى دب الخلاف داخل “مغارة علي بابا” وانكشف المستور بتبجح نوري المالكي بدور ابنه في القاء القبض المزعوم على العقابي.
في 18 آيار 2011 كتبت نيويورك تايمز تقريرا عن حركة الاعمار في العراق كجزء من عمليات غسل سمعة الاحتلال قبيل الانسحاب كان احد ابطاله نمير العقابي الذي وصفته بانه واحد من اغنى اغنياء العراق.اما كيف كون تلك الثورة فالجريدة الامريكية العريقة لا تترد بالقول انه الاحتلال الذي جعل منه “رجلا غنيا جدا جدا.”في مستهل التقرير تنقل الصحيفة عن العقابي قوله للكاتب “يا صديقي، ان العراق غني وبكر” وهي عبارت دالة تفضح النهم للمال وشهوة الاغتصاب وهي سمة كل من شارك في مشروع “دولة علي بابا”.
من اين أتى اول مليون؟في 11 تشرين الثاني 2007 كتب نوريس جونز في النشرة الداخلية للقوات المسلحة الامريكية تقريرا يتحدث فيه ايضا عن جهود اعمار العراق وخاصة تلك التي يقوم بها فيلق المهندسين في الجيش الامريكي للاشراف على 541 مشروع بقيمة ملياري دولار وهي مشاريع ترميم للمستشفيات والمدارس ومحطات المياه والصرف الصحفي وغيرها.كان الفيلق قد انجز حسب ذلك التقرير 3700 مشروع مماثل بقيمة 5,8 مليار دولار كان نصيب شركة العقابي 80 مشروعا منها كان مبلغ مناقصة مشروع واحد منها وهو مشروع معالجة مياه الرصافة 50 مليون دولار.
وهكذا بدأت رحلة الملايين لعراقي غادر بلده وعمره سبع سنوات وجاب العالم في رحلة بحث عن الرزق ولكن لم يحالفه حظه الا بعد عودته مع الاحتلال.
هناك مثال اخر عن منظومة الفساد التي اقامها الاحتلال مبكرا.
يروي زياد قطان الذي اشتهر في حكاية اخرى من حكايات علي بابا كانت هي الابرز في قصص الفساد الخيالية وهي صفقة الاسلحة البولونية الشهيرة والتي كان احد ابطالها وزير الدفاع حازم الشعلان في مقابلة مع جريدة لوس انجلز تايمز يوم 6 تشرين الثاني 2005 انه قبل عمله كرئيس قسم المشتريات في وزارة الدفاع كان يعمل في بيع المياه والزهور والاحذية والسيارات في بولونيا التي عاش فيها.” اما الاسلحة فلا”.ومع ذلك فان هذا الشخص الذي عمل مع المحتلين منذ الايام الاولى للاحتلال ككبير مستشاري وزارة الدفاع ومسؤول المشتريات فيها فقد وقع 89 عقدا لشراء الاسلحة بكلفة قدرها 1,3 مليار دولار لاعادة بناء الجيش الذي دمروه باعتباره جيش صدام.
مالذي تقوله الصحيفة عن تلك الصفقة؟انها جرت بسرية تامة وبدون مناقصة وان الدولارات كانت تحول نقدا على شكل رزم عبر وسطاء هم اصدقاء لقطان يقبضون عمولة سمسرة على ذلك وان بعض قطع الاسلحة هي مجرد خردة وغالية الثمن والادهى من ذلك ان بعض المعدات لم تصل الى العراق اساسا.
قصة قطان كما ترويها الصحيفة لجمهورها الامريكي منذ عودته الى بغداد بعد خمسة وعشرين عاما من الغربة قبل الغزو بيومين وتعينه في ذلك المنصب الكبير هي الاخرى تصلح كحكاية مسلية للامريكيين من “حكايات الف ليلة وليلة” و”علي بابا والاربعين حرامي” ولكنها بالنسبة للعراقيين هي قصة مأساوية من مسلسل التخريب المتعمد للعراق وتدمير ارادة شعبه سنجد ملفاتها في اقبية الاجهزة السرية التي حاكت ذلك المشروع الجهنمي والذي اولد النموذج الحالي.
من ناحيته، يقدم شاهد من اهلها وهو علي عبد الامير علاوي وزير المالية ووزير الدفاع في تلك الفترات في كتابه “احتلال العراق، ربح الحرب وخسارة السلام” تفاصيل مروعة عن ما يدعوه بملحمة السرقات الكبرى التي ابطالها حسب وصفه “وزراء انتهى امرهم بالهرب من وجه العدالة متهمين بالنصب والاختلاس والسرقة” او “مغامرين لايردعهم رادع” او “افراد كانوا يعملون في محلات بيع البيتزا”.الذين عملوا في زواريب ادارة الاحتلال من عراقيين واخرين يتحدثون بشهادات تفصيلية مؤلمة عما كان يدور حول تلك الصفقات التي كانت تجري في مكاتب سلطة الاحنلال والسفارة الامريكية ومعسكرات الجيش والتي لم تجر بشأنها حتى الان اي تحقيقات او يحال اصحابها الى القضاء.
ان العديد من قادة المعارضة لصدام الذين تبنتهم الولايات المتحدة كانوا معروفين بفسادهم وانغماسهم بعمليات اجرامية مثل التهريب وتجارة السلاح وسرقة الاموال، بعضها من معونات الدول التي كانت ترعاهم، او من اموال خيرية او من نهب اموال السفارات والوفود العراقية قبل انشقاقهم، كما ان بعضهم ممن صدرت بحقهم احكام قضائية مشهورة.ان مجرد وجود هؤلاء في صدارة المشهد بعد الاحتلال كان يمثل صورة وقوة مثال تبعث برسالة لكل من لديه الاستعداد للانظمام لـ “دولة علي بابا” الاتية على انقاض دكتاتورية صدام.
كانت هذه الممارسات بالذات التي انفقت من خلالها مليارات الدولارات على مشاريع تافهة او وهمية ولا وجود لها على جماعات اعتبروها صديقة او متعاونة مع الاحتلال هي حجر الاساس في منظومة الفساد التي اقيمت في دولة علي بابا لانها كانت تهدف الى بناء ثقافي يقوم على بناء مؤسسي للفساد.كانت السياسة التقليدية الامريكة وللغرب الكولنيالي عموما تلجأ الى المؤامرات والدسائس والانقلابات وتزوير الانتخابات في البلدان التي تحتلها او تلحقها بتبعيتها الا انها الولايات المتحدة لجأت في حالة احتلالها للعراق الى التخريب النفسي عبر الفساد ليس تجريبا بل من خلال قناعة مخططي الاحتلال بانه اذا كان العراق مختلفا في توقعاتهم بشان احتمالات المقاومة فلابد من التعامل معه بشكل مختلف ايضا.
لقد جرى كل ذلك رغم وجود قوانين امريكية تمنع دفع رشاوي او اي من ممارسات الفساد بسبب الحصانة التي توفرت للجيش وباقي المشاركين في عملية الاحتلال من دبلوماسين وموظفين بل وحتى المتعاقدين من خارج هذه الاجهزة.ولكن تلك الحرب كانت اساسا بلا مبادئ وقامت على الكذب والخداع وانتهاكا للقانون الدولي وشرائع الامم المتحدة مما يجعل الجدل بشأن الجانب القانوني وحتى الاخلاقي ضرب من ضروب الثرثرة ما لم يتم تفنيد مشروع الاحتلال من اساسه باعتباره غزوا كولنياليا مدمرا وفقا للحقائق الصارخة امامنا الان واجبار امريكا على الاقرار بانها مسؤولة عن مأساة القرن في تخريب بلد بالكامل وتدمير خيارات شعبه.
ان احد الاسباب التي تقف وراء الاجندة الامريكية في اشاعة الفساد وتخريب الذمم هو ترسخ قناعة لدى المخططين الامريكيين للحرب والغزو ان هناك درجة عالية من العداء لامريكا في العراق التي هي ارث عقود طويلة من نضال الحركة الوطنية ووعي العراقيين بن امريكا لم تأت الى بلادهم لتحريرهم من صدام او بهدف تحقيق الديمقراطية او اي من شعارات التغير والاصلاح التي كانت قد رفعتها في منطقة الشرق الاوسط انذاك.لقد اختبرهؤلاء المخططين ذلك عمليا حين لم شاهدوا العراقيين وهو يأنفون عن استقبالهم بالورود وحين بدأت المقاومة للاحتلال سريعا مما استوجب رد الفعل الانتقامي ذلك الذي جعل العراق على ما هو عليه الان نموذجا منحطا للفساد والخراب الاقتصادي والتردي السياسي.
ان هذا الاستنتاج ضروري للرد على تلك التساؤلات التي سيقول اصحابها ماذا لو كان العراقيون قد رحبوا بالاحتلال وبالسيطرة الامريكية على بلادهم ولم يبدوا مشاعر الكراهية للولايات المتحدة، فهل كانت امريكا ستختار طريقا اخر لمساعدة العراقيين على اعادة بناء بلادهم؟ان احسن رد على ذلك هو ما جاء به “بيتر بيكر” الصحفي في نيويورك تايمز في كتابه “ايام النار” الصادر هذا الشهر نقلا عن مسؤول امريكي بارز في ادارة الرئيس بوش بقوله “لقد ذهبنا للعراق ونحن نبحث عن مؤخرة شخص ما لنركلها”.والحقيقة انهم لم يركلوا شخصا بحد ذاته، بل ركلوا بلدا باكمله.
عندما كنت جندية
فاليري زيناتي
ترجمة
صلاح النصراوي
ج1 ف3
العد العكسي إلى الجيش
عندما أخبرت أولاد عمي في فرنسا الصيف الماضي بأني في طريقي إلى الجيش بعد البكلوريا ذهلوا تماماً، خاصة البنات اللواتي لم يكن بإستطاعتهن فهم أي واقع يمكن أن يختبأ خلف كلماتي تلك.بنات في الجيش، في البزة العسكرية، أسلحة وكل شيء آخر، بدا لهم وكأنه شيء من فولكلور غامض، تماماً مثل لعبة ترتدي فيها البنات ملابس الأولاد لبعض الوقت.كان بإمكاني الإستنتاج بأنهن لن يفهمن مطلقاً وأن علي أن أتخلى عن محاولة الشرح.
الجيش هنا هو جزء من حياتنا.حتى قبل أن يتم تجنيدنا، وحتى قبل أن يتم فحصنا لأول مرة (الفحص الذي يرعب كل الفتيات لأنهن يعرفن أنهن سيوضعن في مجموعة من خمسة حيث عليهن الإصطفاف والمرور عاريات على الأطباء الذين يكونون بالغالب من الرجال، الفكرة بحد ذاتها مثيرة للخوف لديهن.)
الجنود هنا، سواء أكانوا فتياناً أو فتيات هم أبطال الماضي، أولئك الذي ربحوا حرب الإستقلال، حرب الأيام الستة، وحرب يوم الغفران.في يوم الشهداء كل عام يعرضون أفلاماً وصوراً بالأبيض والأسود عن جنود، يسلبون الألباب بأناقتهم، ينظرون إلى الكاميرا، في حين تبدو على محياهم ابتسامة ذابلة، مبهرة.نمر بهم كل يوم في الشارع، في السينما، في مراكز التسوق، في النوادي، في محطات الحافلات، عند جيراننا، عند أصدقائنا، معظمهم في لباس الخاكي، وأقل عدداً في بزات القوة الجوية الرمادية.يعودون إلى بيوتهم من قواعدهم، أو بالعكس، في ساعات راحتهم، يخرجون للنزهة، يغازلون.لا أحد يلاحظهم بالذات لأن هناك الكثير منهم، ولأنه شيء مألوف، ولأن كل واحد منهم أما أنه كان في الجيش أو لايزال فيه، أو سيكون فيه يوماً ما.ولكن حين ينام جندي على كتف شخص ما في حافلة، فأن الجميع يتبادلون تلك النكات المحببة، ورغماً عنه فان الشخص الذي يتكأ عليه الجندي يبدي حرصاً الا يتحرك لكي لا يوقظ ذلك الفتى، أو تلك الفتات في الثامنة عشر من أعمارهم، والذين ينذرون عامين أو ثلاثة من حياتهم لخدمة الوطن، كما يقولون عندنا.حين يتعلق الأمر بالجيش فأن الجميع يتفق على شيء واحد:إنه أمر مرهق، ولكنه ضروري.
دائماً ما يكون الجيش والجنود هناك، في الأفلام القليلة التي أنتجت في إسرائيل، في الأغاني التي لا عد لها والتي تعزف في الإذاعات دائماً.في كل شريط لـ”شلومو أرتيزي”، مطربي الإسرائيلي المفضل، هناك أغنية عن الجندي.أشعر كأن الشريط الذي ظهر قبيل التحاقي بالجيش المعنون “حر يوليو-أغسطس” يروي قصتي، كأنه كتب خصيصاً لي، كأنها هذه الأشهر من الصيف، الأخيران من الصيف، هما ملكي، يختزلان في خمس عشرة أغنية:حب يتلاشى وسط الآلام، ومشاعر الذنب، وجع الحنين، وسواد هذه الإنتفاضة، الذي يجثم فوق كل شيء، يستهلكنا، أو كما يقول البعض، يهدد بإبتلاع أرواحنا.
والحقيقة، وأخيراً وليس آخراً.فالجيش بالنسبة للفتية هو البنات وبالنسبة للفتيات هو الفتيان.وبتعبير آخر فان كل بنت (نأخذهن على سبيل المثال) تأمل بأنها ستجد في ذلك (الكتالوغ) الكبير من ينتظرها من الفتيان الذين هم في الثامنة عشر أو في العشرين من أعمارهم، شاب يبدو لديه متسع من الوقت لكي يصارحها بحبه، شاب يعني كل ذلك بالنسبة لها:أنا رجل، رجل حقيقي، قوي ولكن حساس، أنا هنا لكي أحميك.أما الآخريات اللواتي لديهن أصدقاء فيعشن في خوف، تنتاب كل واحدة منهن الكوابيس كل ليلة، من أن جندية رائعة الجمال، تستحق الموت من أجلها، ربما تظهر لصديقها وتعرض له كتفها لكي يبكي عليه.ومن بين الأشياء الأخرى أن الجيش هو مسرحنا الكوميدي.
نحن أمة عالقين بين الأغاني والبحر والحرب.بلد الموت فيه مقبول من سن الثامنة عشر، ولكن ذلك لا يجعل من أي شخص أكثر ذكاءً.بلد نحن فيه مقتنعون بان الحب يمكنه الإنتظار في تلك القواعد العسكرية التي تحيط بها الأسلاك الشائكة، تحت الخيام، في أكياس النوم.هذا هو بلدي، لذلك فاني أعرف وأفهم كل ذلك بشكل طبيعي.ومع ذلك فأني أحس تجاهه باني غريبة، أجنبية.
لدي متسع من الوقت، شهور، لكي أفكر بيومي الأخير، قبل الموعود المحتوم.سأذهب لحمام السباحة مع “جين-ديفيد”، سألعب معه التنس، طبعاً سأغلبه، دعوني أقول 4–6، 4–6، 5–7، سيقبلني ويهمس لي، “مبروك ايتها العقيد” وسنمضي بعد ذلك إلى بيتنا حيث يلحق بنا الجميع، “يوليا”، “راحيل” وصديقها “فريدي”، “إيلان”، “رافي” و”توفا”.سيجلب “إيلان” غيتاره معه، وسيغني الجميع بالروسية، أغنيات لا أفهمها ولكني أحبها، أنا و”جين-ديفيد” سنغني بالفرنسية، وستبتسم أمي والدموع في عينيها، بينما تأخذ لنا صوراً، وهي تقول “يا لكم من شباب رائع.”
“جين-ديفيد” سيقضي الليلة معي، (أمضيت أياماً أتوسل إلى أمي لكي تتفضل بالموافقة على ذلك) وفي صباح اليوم التالي 19 سبتمبر سيذهب معي إلى مكتب التجنيد، سيضمني إليه وسيقبلني لمدة طويلة بينما يراقبنا أصدقاؤنا بحنو، في حين أن البنات الأربعين من بئر سبع اللواتي سينضمن إلى الجيش سينقسمن بين من هي غيورة، ومن هي معجبة، وهم يروني أودع صديقاً جميلاً ببشرة بيضاء، وجاكيت شبابي، يدخن سجائر مالبورو بالعلبة الحمراء.
اليوم هو الثامن عشر من سبتمبر ولا شيء يحدث وفقاً للخطة.الشخصية الرئيسية في السيناريو لايزال غائباً ومنذ الصباح وأنا أتمتم مع نفسي “وغد، وغد، وغد”.لم يعد الأمر مؤلماً (كما كان طيلة الصيف حيث قضيت الليالي ساهرة أستمع إلى أغانينا المفضلة.)-فالان أنا غاضبة فقط عليه لأنه أفسد السيناريو الذي وضعته.
صباح اليوم ذهبت إلى “اكسترافارم” لكي أعمل للمرة الأخيرة.الجميع إحتفوا بي حتى أنهم علقوا بالونات في مخزن البضائع مع لافتة كتب عليها:”ايتها الجندية، إذهبي بسلام وعودي لنا بالسلام”.وجدت الأمر برمته مضحكاً، ومثيراً للعواطف.كما أنهم أهدوني قنينة سائل تلطيف الجسم ماركة “نينا ريتشي”.شكرتهم من كل قلبي، رغم أني كنت أعرف بأنها ليست غالية الثمن لأن العاملين يحصلون على خصم قدره 30بالمائة.كنت أفضل قنينة عطر، وأشعر بالإستياء أن لا أحد فكر بذلك.لدي مزاج يتسم بالقرف، في رأسي أصوات تطحني، ومع هذا فاني أبقى مبتسمة، أقبل الناس، أضحك على نكتة تافهة حول الجيش سمعتها مئات المرات، وأوافق دون تردد على أشياء يصرون عليها:
“سترين…ستكبرين..الجيش يغير كل شيء…ستشعرين بالحنين إلى البيت…وخاصة طعام أمك.إن ذلك من أجل الوطن، إنه شيء عظيم..عليك أن تعملي شيئاً للوطن..إنها تجربة، إنها جامعة الحياة…، أضبط أعصابي.أجوبتي غامضة، أدمدم بعبارات لا يصغي إليها أحد، لاني لست هنا لكي أتكلم، بل لكي أصغي الى الحكم البليغة لهؤلاء الناس الذين يفخرون بتجاربهم، كما أنهم سعداء لأن الفرصة واتتهم لكي يستعيدوا ذكرياتهم في الجيش للمرة المليون، مصحوبة، كما لابد منه، بـ”طبعاً أنها كانت أكثر صعوبة حينذاك.”إنهم لطفاء، لقد قدموا لي هدية، كما أنهم إشتروا قطعتين من الشكولاتة البيضاء،(أيضاً مع تخفيض 30بالمائة)، كما أنهم حملوا عني عبء العمل-“ستحتاجين إلى طاقتك نظراً لما تنتظرينه غدا-ولكني أشعر أن علي أن اشحنهم جميعاً الى غزة(كما نقول هنا)، أرغب بأن أقول لهم إذهبوا إلى الجحيم بكلماتكم الجوفاء، التي لاتصلني، أشعر بالضجر أكثر فأكثر، حزينة وغاضبة، دون أن أدري لماذا.ادعي ان لدى صداع كي استطيع أن أغادر مبكرة، لا أحد يسألني.والحقيقة أنها ليست كذبة:الالم الغامض الذي اعرف كنه جيداً، حين أكون عصبية يدك رأسي.أخلع بزة العمل الزرقاء للمرة الأخيرة.أمضي خارجة.انها الساعة 3:27.
أذهب إلى الحمام، حيث لا حيلة إلا أن أشاهد أمامي الميثاق المشهور بالوصايا العشر.أحمل في حقيبتي قلماً احمراً للخط.أخرجه، يصبح دافئاً في يدي، أو لربما أن يدي هي التي تصبح دافئة بعد ملامستها له.لقد نسيت تماماً أن كان درس الفيزياء أم الكيمياء هو الذي يفسر ذلك لنا.أرفع الغطاء، أتردد ليس بسبب خوفي من أن يمسكوني، بل بسبب أني لم أقرر حتى تلك اللحظة مالذي يمكن أن اكتبه.احتاج لكلمة واحدة، جملة واحدة صاعقة، تقول كل شيء، شيء محدد يمكنه أن يعكس مشاعر الثورة التي في داخلي.تورية، شيء مختصر، كلمة منحوتة، ضربة معلم.أخيراً أختار:”وقال الرب: “ليكن هناك رأسمالية متوحشة، “فكان هناك “اكسترافارم”.وأشير إلى مرجع:اصحاح الشغيلة المستغلة، الفصل الأول، الآية 7.
أودع العاملين المجتمعين بالشركة وامتطي دراجتي.لم أكن لأهتم لو أنهم أمسكوا بي-في الواقع كان سيبدو الموقف مثيرا للضحك في رؤية وجوههم حين يتوجه العشرات منهم إلى الحمام لكي يعلقوا على وجهة النظر الجاحدة تلك-ولكن كان على أن أعود إلى البيت بسرعة.رأسي تنفجر.
الشقة فارغة.اخذ ثلاثة أقراص أسبرين.أشيائي منثورة على فراشي، أمي رتبتها بعناية، وفقاً للقائمة التي أرسلت من قبل الجيش.الملابس الداخلية يجب أن تكون بيضاء، الجواريب سوداء، أو بيضاء،وبمواصفات خاصة، الا تكون بشرائط، أو بحافات ملونة، أو مطرزة.المجوهرات ممنوعة تماماً خلال التدريب.بإمكاني أن اخذ معي مواد تكفيني لإسبوعين.أعلم أني سأغادر غداً ولكن لا أعلم متى ستكون إجازتي الأولى.
أنظر إلى الأكوام الصغيرة التي صفت بعضها فوق بعض، الحقيبة الجديدة التي يمكن تنظيفها بالماء، والتي اشتروها للمناسبة.كأني ذاهبة إلى مخيم لقضاء عطلة.أو لفسحة.ولكن من بإمكانه أن يذهب لقضاء عطلة في مخيم لمدة عامين؟فجأة أشعر بموجة من الرعب في داخلي.ماذا لو كتبت وصيتي؟قد يكون هذا هو الوقت المناسب.في هذا الوقت من الغد سأكون بعيدة جداً من هنا…أضيف جهاز الستريو الخاص بي إلى كومة الملابس، معه أشرطة غنائية، بضمنها أشرطة إغاني فرنسية، أريد أن يكون جزءاً، ولو صغيراً من فرنسا معي.كذلك كتاب، كتاب جيد يمكنه أن يبكيني ويضحكني في آن.ذلك هو تعريفي للكتاب الجيد، مزيج من التعاسة والسعادة.
هل سيكون هناك وقت للقراءة؟لايهم.لكن ينبغي أن يكون هناك دائماً كتاب معك.وكذلك دفتر ملاحظات لأدون فيه.إنهما ضروريان من أجل البقاء.
يرن الهاتف.أتردد لبرهة، ربما هو مدير “اكسترافارم” لكي يخبرني كم هو محبط من نكراني للجميل….بعد كل ما فعله من أجلي…أغادر بتلك الطريقة، أشوه الوصايا العشر!ليس لدي رغبة بأن أصغي إليه.لا أشعر بأني قادرة أن أشرح له.غير أن الهاتف يظل يرن.ليس لدينا جهاز تسجيل المكالمات، إنه غال.لايهم فلن أعرف أن كان هو أو شخص آخر.
أنتظر توقف الرنين قبل أن أرفع السماعة.أريد أن أكلم أي كان لكي أبدد عصبيتي.”لويبا” اخت “يوليا” الصغيرة تقول لي أن “يوليا” ذهبت إلى المدينة، ربما بصحبة “راحيل”، هي ليست متأكدة.أم “راحيل” تقول لي أن ابنتها بالخارج، ربما ذهبت إلى المدينة مع “يوليا”.تتمنى لي حظاً سعيداً في خدمتي العسكرية.حظاً سعيداً…لا يمكنني أن أعرف مالذي يعنيه ذلك، ولكني أشكرها بأدب.أنا فرنسية وعلى أن أحافظ على سمعتنا الوطنية في ميدان اللياقة.
أحاول الآن أن اعثر على “فريدي” صديق “راحيل”.هو طويل، عريض المنكبين، وذي عينين خضراوين تجعلك تشعر أنه يصغي للشخص الذي يكلمه.أنا متيمة به.تتوتر “راحيل” حين تسمعني أقول ذلك، ولكنها الحقيقة، ولا أرى أني أسيئ إلى آحد في ذلك.تم تجنيد “فريدي” قبل ثمانية أشهر في سلاح الهندسة.أعتبر يومها أكثر الجنود براعة من بين أفراد دفعته.ولكن ما أن عرض قابلياته وبرهن على براعته خلال شهور الدورة الست، فانه لم يستطع الإستمرار بتلقي الأوامر التي إعتبرها أحياناً غبية، لذلك فقد هرب من الجيش، بما يعني أنه عاد إلى البيت في آحد أيام الجمعة، قبل أسبوعين، ولم يعد ادارجه يوم الأحد التالي.لا يبحث الجيش عنه بجدية الآن، وبالنسبة لنا فنحن نحاول أن نستغله بأكثر ما يمكنا، سيارته، مهاراته في المطبخ، وصوته المحبب الذي يغني به بالعبرية أجمل من أي أحد آخر.ليس في ذلك ما هو غريب، فقد ولد هنا، فهي لغته، بغريزته يضع المقاطع الصوتية في مكانها تماماً، دون أي عناء بشأن عدد المقاطع أو بناء الكلمة.هو الأخ الأكبر الذي تمنيته أن يكون لي.لسنوات كنت أظن أن ذلك كان سيحل لي كل مشاكلي.
لكن لا أحد يجيب في بيت “فريدي”، ولذلك اقفل السماعة، وأنا يائسة.أين هم؟لماذ إختارت “يوليا”، والأهم “راحيل” هذا اليوم بالذات لكي يتبخروا بالهواء الطيار.في هذا المساء الذي احتاجهم فيه، كان يفترض أن يكون أمر منتهياً منه، ولكن لا، كان يجب أن اخبرهم،” يا بنات، سوف أذهب إلى الجيش في التاسع عشر من سبتمبر.إن لم تكن لديكم مشكلة، فأنا لن أمانع اذا ما التفتوا حولي يوم الثامن عشر.تعلمون أن بودي أن أتحدث إليكم، أعني اذا كان لديكم ما هو أهم من ذلك تعملوه، فلا تتردوا أن تتظاهروا بأني لست هنا، فأنا بالتأكيد لا أود أن أنتهك حريتكم، فأنا أعلم كم هي مهمة.في أقل من أربع وعشرين ساعة سوف لن يتبقى لي أي شيء منها.
أذهب لاتمشى حول المبنى فربما اجدهم فوق العشب، يتبادلون الأحاديث بسعادة، وغير مكترثين بي.لا أحد هناك.أعود إلى الشقة لكي اخذ المضرب والكرة والعب مع الحائط في نادي الألعاب، المواجه لمبنى السكن.بعد ساعة من توجيه الضربات المباشرة، أقرر بأنني قد هزمت نفسي، 4–6، 4–6، 5–7.الضربة الأخيرة كانت مشكوك فيها، ولكني لم أعترض.
أمي تحيني بإبتسامة عريضة.
“أين كنت؟أختك تكلمت من القاعدة لكي تتمنى لك حظاً سعيداً.تتأسف لأنهم لم يسمحوا لها بالمغادرة الليلة.
“سونيا” في القوة الجوية منذ عام، في قاعدة كبيرة على مسافة نحو سبعة كيلومترات من هنا.قاعدة خمس نجوم، كما هي كل القواعد في القوة الجوية.لديهم ساحات للتنس، حمامات سباحة، دور سينما، غرف موسيقى وسوق كبير.تستمتع “سونيا” بأوقات رائعة.لديها إجازات إعتيادية، أما باقي الوقت فتستمتع فيه بحياة مريحة في قاعدتها المرفهة.وهي أيضاً تعتقد بأنك تأملين بأن تكوني محظوظة.
“ذهبت لألعب التنس لوحدي.ألم يتصل أي أحد آخر، عدا “سونيا”؟”
“لا.”
“لا “راحيل”، لا “يوليا”، لا “فريدي”؟”
“لا، لا أحد.”
مجروحة، أشعر بأنني مجروحة بجد.أعرف أن ذلك يبدو غريباً، ولكن ذلك ما أشعر به.أمي قلقلة.
“هل هناك أي مشكلة؟”
“لا، لا، كل شيء على مايرام.(أقول ذلك بالانكليزية، لأني حين أفعل ذلك، أشعر بأني أكثر حرية واقل إنكشافاً)
“كيف كانت “اكسترافارم”؟”
“ممتازة، ممتازة تماماً.نفخوا بالونات واطلقوها، نشروا الزينة في كل أنحاء المتجر.كان شيئاً عظيماً، شعرت بأني مثل طفلة في الثالثة من عمرها.”
“تبدين ساخرة جداً.”
“لا، لست كذلك.”
“نعم، أنت كذلك.عندما تتكلمين الانكليزية فانت ساخرة.أنا أعرفك جيداً.”
“أولاً وقبل كل شيء، أنا تغيرت نوعاً ماً، منذ أن كنت طفلة.ثانياً، هذه ليس وقت النكات.ثالثاً من الذي يطبخ هذا المساء أنت، أم أبي؟”
“أبوك.فكر بالبيتزا، هل سيلائمك ذلك؟”
“ممتاز، جدـــ”
أستدير نحو الهاتف الذي قرر فجأة أن يرن.صوت محبب يأتي من الطرف الآخر يقول، “فاليري، كيف أنت يا جميلتي.”
ما هذه العادة التي لا يقول الناس فيها من هم حين يتكلمون على الهاتف.شيء مقرف حقاً.هل يعتقدون أن هناك جهاز فيديو هاتفي مزروع في الجانب الأيسر من دماغي؟”
“ليس لدي جهاز فيديو هاتفي مزروع في الجانب الأيسر من دماغي”، أقول،” من المتكلم؟”
“يا لك من مهرجة!” إنها كاثرين.(احدى صديقات أمي.) اردت أن أتمنى لك حظاً سعيداً وأن أواسي أمك، المسكينة.لابد أنها مكسورة الخاطر، بنتان في الجيش…”
“لا ليست حزينة، ليس هناك من هو أسعد منها، أعني الليلة بإمكانها أن تواري حياتها كأم شابة، إذا كنت تردين أن تريها فستكون في أحد النوادي منتصف الليل.أخيراً تتخلص منا.ثمانية عشر عاماً، تلك فترة أكثر من كافية لكي تعرفي أولادك.”
أسمع ضحكة لا تخلو من حرج، رداً على ماقلته.أمي تنظر إلي بشزر.أعطيها سماعة الهاتف بدون إكتراث وأغلق علي باب غرفتي.سأحول أي أحد آخر يتمني لى حظاً سعيداً إلى صوص السباكتي.
“شلومو ارتيزي” يغني لي، يقول لي أنه جندي وأن على الا أبكي، أنا تلك البنت الصغيرة.فجأة أفكر بأن كل، أعني كل الأغاني، تدور حول الجنود، عن الجنود الفتيان، ليست عن الجنديات.كأني أبحث عن سبب إضافي لكأبتي، هذا هو:امضين سنتين في الجيش، أيتها الفتيات، لكن بالله عليكن، لا تتذمرن.مهما كان ما ستفعلونه، لا تظهرن ذلك في أية أغنية!
انها السادسة والنصف.
حينما تركني، نبذني، دمرني “جين-ديفيد” أدركت بأن بالإمكان الغرق ولكن من غير أن أموت.أفتح كتاباً كيفما إتفق، أقرأ جملة دون أن أعرف مالذي جرى قبلها، ثم أعود وأقرأها في السياق ما يجعلني أشعر وكأني ألتقي بصديق قديم، صديق يعطيني الثقة.شيء لا يصدق.
ومضى، هكذا، مع معاني كثيرة مخبأة.أعود إلى البيت أعاني من أفضع نوبة إرهاق دون أي سبب.ذلك هو أفضل ما يكون.ما أعنيه هو أن ذلك النوع من قلق ما قبل الولادة، دون تفسير هو الأكثر عمقاً، الأكثر منطقية، الوحيد الذي يمكن أن يكون حقيقياً.إنه ينبع من عمق المشكلة الحقيقي.
يرن الهاتف، يرن ثانية، ومرة أخرى.أقفز في كل مرة ولكن أمي لا تبدي إهتماماً بأن ترد.جدتي، عمتي، خالي، أختي كلهم يتصلون ويمطروني بكلمات التشجيع، وكأني رياضي عظيم قبيل دخوله مباراة حاسمة، كأني محكوم قبيل أن يمضي لتنفيذ عقوبته.كم هم لطفاء.لكني بإنتظار إتصال آخر.ليس بنفس القناعة الآن، ولكني لا أزال بنفس الأمل.
الساعة حوالي السابعة الآن وأنا على إستعداد لكي أنفجر بالبكاء.لدي تلك العقدة التي في حلقي، ها هي على وشك الإنفجار.يرن جهاز الإنتركم، ذلك قد يكون أبي تذكر بأن على أن اؤى إلى الفراش مبكراً لكي أنهض صباحاً وأنا بأتم إنتعاش وراحة ويقظة، ولذلك جاء لكي يعمل البيتزا التي سأكلها دون أية شهية، حزينة ومنطوية.
“نعم.”
أسمع جلبة غير مفهومة، ثم كورساً.
“نحن.”
“هم؟نعم أنهم هم.في تلك الأصوات المتمازجة أعرف صوت “راحيل”، “يوليا” و”فريدي”.يطلعون السلم بسرعة، وها هم هنا وأيديهم ممتدة بصواني وهدايا يقبلوني ويعانقوني.
“إذن، هل ظننت أننا نسيناك؟”، تسألني “راحيل”: مع إبتسامة تأمرية.
“لا، لا ، إطلاقاً…”
“كاذبة”، تطلقها “يوليا”، علي بينما تضربني برفق على أنفي.
“أنت مقنعة بقدر ما “بنيشيو” مقنع.”
“لا، صدقوني، لقد خمنت أنكم ستفاجؤني!كنت أقرأ كتاباً وأنتظر قدومكم….”
لا وقت لدي لكي أتمم جملتي قبل أن أنفجر بالبكاء.لم يكن أمراً موفقاً، ولكن لم أستطع أن أمسك زمام نفسي، لقد جاء الأمر عفوياً.يعانقوني ويأخذوني لأجلس على المقعد.
“إنها عاطفية جداً”، تقول “إيلينا”، التي كانت هناك أيضاً.
“لا تقلقي، فقد جئت بما هو مطلوب”، يقول “إيلان” وهو يلوح بغيتاره.
“هيا، دعوا الحفلة تبدأ!” يصرخ “فريدي” وهو يفرغ الصواني المليئة بالمعجنات المطعمة بالجبنة وبالبيتزا والحلويات الشهية.
“كنت أعمل طيلة النهار، مع مساعدتي”، يضيف واضعاً يديه بحنان حول عنقي “راحيل” و”يوليا”.ومضة ضياء.أمي تلتقط صورة.حسناً فعلت، كانوا رائعين، الثلاثة، عيونهم تلمع بإبتساماتهم وصداقتهم وبالسرور الذي يبدوه في إعداد هذه المفاجأة لي.على حين غرة، أجد نفسي أتنفس براحة أكثر.أكلنا، شربنا، تحدثنا عما يعتريني من شعور، أنا البنت الأولى في المجموعة التي تلتحق بالجيش.
“أنا خائفة”، أقول،”أنا مرعوبة حتى الموت.لا أستطيع الثبات لدقيقة.لا أطيق الإنتظار إلى يوم الغد، حتى أرى مالذي يريدون أن يفعلوه بي.”
“لن تعرفي الكثير”، يخبرني “فريدي”، “ستعرفين فقط القاعدة التي ستتدربين فيها، ومن هن البنات اللواتي سيكونن معك في نفس الخيمة.دورات التدريب، وخاصة للبنات، هي بداية، مجرد مقدمة.الكثير من الأشياء تجري هناك ولكن معظمها لا علاقة له بما سيجري بعد ذلك.
“خذي الاشياء كما هي”، يقول “إيلان”.”على أي حال، ليس بإمكانك أن تتخذي اي قرار.هم من سيختار مالذي ستفعلين ولمن ستنتسبين.ستكونين واحدة من بين آخرين، ستكونين مجرد فرد في الجيش.”
“دعها وشأنها”، تتدخل “راحيل”.أنتم تزعجونها بحكمكم الدنيوية الرخيصة!”
“يا إلهي، كأنه الأمس يوم خطوت لأول مرة نحو المدرسة”، تتمتم “يوليا”، تنظر بعينين مغشيتين.”لم تكوني تتكلمين كلمة عبرية واحدة، وحاولتي أن تتفاهمي بالانكليزية، غير أن لكنتك الفرنسية دعت الجميع يضحكون، لذلك لم يكن يصغي إليك أحد.كنت تبدين أجنبية جداً، ضائعة جداً…، والآن تتكلمين مثلنا، وتحبين نفس الموسيقى التي نسمعها، وتلتحقين بنفس الجيش مثلنا…”
نسترجع ساعات النقاش تلك، حين كنا نصوب مسيرة العالم، حين كنا نتجادل بشدة لأننا كنا نحمل أفكاراً سياسية متباينة.أحزاب القمامة، أحزاب البراعة، أفلام هوليود العاطفية، أفلام “ودي ألن”، المسلسلات الامريكية التي كنا نشاهدها دون أن نترك أي حلقة منها، حفلات “شلومو أرتيزي”، النميمة الفضيعة التي نتبادلها كل يومين أو في الأمسيات على الهاتف، تحت مسمع الوالدين اللذين كانا يفكران بجدية إقامة جمعية لإلغاء نداءات الساعات الثلاثة.إرتياد النوادي في بئر سبع، أو تل أبيب، أول مرة شربنا فيها “التكويلا”، أول مرة (تعرفون ما أعني) حسب الترتيب:أنا، ثم “راحيل” وبعد ذلك، أخيراً “يوليا” مع ألماني كان متطوعاً في “كيبوتز” قضى فيه أسبوعين.ليالي السكر تلك، الحزينة، السعيدة، المليئة بالفلسفة، الكتب التي بدأنا كتابتها على أمل أن يقر بنا يوماً ما كروائيات، شابات لامعات (“يوليا” وأنا)، الكتب التي ذرفنا دموعاً فوقها، الأشياء التي كانت تجمع الأولاد والبنات سوية، الأشياء التي كانت تفرقهم، هل الصداقة ممكنة بين ولد وبنت؟ (أنا وفريدي)، البكلوريا، التي لم نستلم نتيجتها بعد، والتي لا نبدي بها أي إهتمام هذا المساء، الحب الخالد الذي لا يدوم إلا أياماً قليلة، الرحلة إلى “إيلات” والبحر الأحمر، درجة الحرارة 40بالظل، “راحيل” تدهن نفسها بمرهم “فاكتور-90” المقاوم للشمس، أما أنا و”يوليا” فندهن أنفسنا بمرهم “فاكتور-4” كل ثلاثة ساعات، كي نمنح أنفسنا لوناً برونزيا خفيفا، في المساء ينضج الجلد، وتصبح أي لمسة به مؤلمة، نظرات “راحيل” المبدئية.التعبيرات القليلة الفرنسية والروسية التي تعلمناها طوال السنين:”كاك ديلا”، “خرشو”، “يا هاتشو دامواي”، يا تبيا ليبلو”، “سباكيون نوتش”،”باجولستا”، “شتو تي هوتشيتش!” “كتو تا كويا”، “بريفيت؟” “كومن سافو”، “سا فا بين”، “جيتيم”، “مون أمو”.”أو ايرا تو فوندرا كوند تو فودرا”. “جي فوا لا في تين روزن”، الأسئلة، الأجوبة، الشكوك، المعلمون السخفاء، والرائعون.حياتنا، سنوات الصبا التي تتنفح تحت أعيننا ونحن نمر بتجربة المشاعر غير المألوفة، شيء جميل ولكن حزين يثقل على قلوبنا، لأول مرة ينتابنا شعور هائل بالحنين.
“ماذا لو فتحت هداياك؟، تقترح “راحيل”، وعيناها مثلنا جميعاً، تحتفظ بدموعها، لكنها ليست من ذلك النوع الذي يستلم بسهولة لكل تلك العواطف.
يشكلون حلقة حولي، يراقبون ردة فعلي والتي أنا على يقين أنهم تنبؤا بها.
أصدقائي الأبعد مثل “إيلان” و”إيلانا” أختاروا أشياء كلاسيكية، كريم الحمام بطعم الكرز، أقراط وطاقم تجميل.”راحيل”، “يوليا” و “فريدي” إشتركوا لكي يقدموا لي شيئاً خاصاً جداً، أو مفاجأة.
شريط أغاني لـ”داني روباس” (أصبح يشكل تهديداً لـ”شلمو ارتزي” وفي مقدمة العشرة الذين في القمة.)، بضعة أشعار لـ”يوناتان غيفن”، الأكثر حساسية وسخرية بين شعرائنا وصحيفنا وكتابنا، ومطوية على سبيل السخرية تحتوي على أشياء من أجل البقاء صفت بترتيب بحيت ينبغي علي أن أفتحها بنسق معين: مع كل واحدة منها هناك ملاحظة تفسيرية:
رزمة واقي ذكري للحالات العاطفية الطارئة.
رزمتان من مناديل ورقية لمساءات الإحباط الشديدة.
شمع إزالة الشعر للحالات المستعجلة.
أسبرين لمعالجة الرأس المتصلبة.
مصباح يدوي لرؤية نهاية النفق.
قميص كتب عليه “من أجل العطلة” لكي يمنحني “أحلاماً سعيدة”.
انف المهرج، لكي أضحك على الأقل مرة واحدة يومياً حين أنظر إلي وجهي بالمرآة.
25بطاقة تلفون للإتصال بهم عند منتصف الليل، لكي أقول لهم …”
البوم تصاوير صغير “مع أفضل صورنا” لكي لا أنسى أن لي أصدقاء سيكونون دائماً هنا.
أقول لكل منهم شكراً، أقبلهم جميعاً، وبرصانة أمنح كل واحد فيهم وساماً لأفضل الأصدقاء في العالم.يبدأ “إيلان” بالعزف على غيتاره ويغني أغنية لـ” للروسي “فلادمير فيسوتسكي”.ثم نغني جميعاً بالعبرية بينما تأخذ امي صوراً لهم من جميع الزوايا.يغمرني شعور رائع.غداً لم يعد في الحسبان.
****
Security chaos in Iraq
Bragging by Iraqi Prime Minister Nuri Al-Maliki about his son’s responsibilities has unveiled the extent of the country’s security problems, writes Salah Nasrawi
There has been much debate about Iraqi Prime Minister Nuri Al-Maliki’s off-the-cuff remarks and bombast, but his disclosure recently that his son was leading the crackdown on his opponents was stunning to many Iraqis, who have viewed the remarks as being reminiscent of the powers once exercised by the sons of former Iraqi president Saddam Hussein.
Al-Maliki’s revelation that he had sanctioned a police raid by his son Ahmed against opponents also underscored the dilemma of the Iraqi security forces, which have failed to curtail the sectarian violence that many Iraqis believe is driving the country closer to the brink of civil war.
In a televised interview on 9 October, Al-Maliki admitted that he had authorised his son to arrest a contractor wanted on charges of embezzlement, tax evasion and the possession of arms.
“Though they have an arrest warrant to go and get this man, the security forces were afraid to do so because he is well connected and has ties with the media,” Al-Maliki told Al-Sumeria television.
“But Ahmed said, ‘give me the arrest warrant and I will bring him incommunicado,’ and this is what he did,” Al-Maliki said, adding that this was the second time that he had asked his son to carry out an arrest order.
“Ahmed is tough,” Al-Maliki boasted.
However, many Iraqis were outraged by Al-Maliki’s admission that he was assigning his son police duties. Some said the remarks were deliberately crafted to scare the prime minister’s critics.
Al-Maliki’s pampering of his son has also rekindled Iraqis’ memories of Uday and Qusay, Saddam’s two hated sons, who were reported to have been responsible for many ruthless acts, including crackdowns and torture, when their father was in power.
Reacting to the revelation, some in the Iraqi media criticised Al-Maliki’s statement and ridiculed him for making his son the “Green Zone Cop”, a reference to the fortified centre of Baghdad.
Others mocked him for turning Baghdad’s tightly secured central zone, which hosts key government offices and foreign embassies, into the “State of Hamoudi”, a reference to Ahmed’s nickname.
Many media outlets reported that despite Al-Maliki’s brag, the contractor in question had not been arrested and had even allowed to escape abroad. They suggested that the row had actually been about the kickbacks that the contractor had failed to pay to Ahmed.
Meanwhile, lawmakers snubbed Al-Maliki for letting his son take security matters into his own hands. Some MPs expressed their discontent over what they perceived as the humiliation by Al-Maliki of the country’s army and police.
“This is an insult to the army and the security forces that are fighting terrorists,” Hakim Al-Zamili, a member of the parliament’s security and defence committee, said.
Opponents said Al-Maliki’s remarks sent a strong negative message to the security forces to the effect that they were incapable of carrying out their duties in ensuring law and order.
Even some of Al-Maliki’s allies expressed their shock at his admission.
“When the prime minister says a million-man force cannot arrest a wanted thief, this is damning evidence of failure,” said Transport Minister Hadi Al-Amiri, a close ally of the prime minister and head of the Shia Badr Organisation.
Ahmed has long been rumoured to use his influence as one of his father’s key aides in filling official roles. In 2009, a Wikileaks cable described Ahmed, 27, as being a member of Al-Maliki’s inner circle, identifying him as the head of Al-Maliki’s private office.
However, Al-Maliki has not seemed troubled by the criticisms, though his spokesman, Ali Al-Mousawi, said Ahmed had been acting in his capacity as “the official responsible for state property in the Green Zone.”
By deciding to trumpet his son’s role in state security matters, Al-Maliki has retriggered criticisms of his heavy-handed style of leadership. He has also sparked fears that he could be tightening his control over Iraq’s embattled security forces ahead of crucial parliamentary elections next year.
The debate also extends to the realm of the Iraqi security forces’ effectiveness, which are widely seen as sectarian, corrupt, untrustworthy and incompetent.
Indeed, Al-Maliki’s disclosure speaks volumes about the inefficiency of the security forces, which have been largely blamed for failing to stop the bloodshed in the violence-ripped country.
The row comes as sectarian violence in Iraq is spiralling amid fears that the country is sliding into a civil war. Iraq has seen a sharp increase in retaliatory Sunni-Shia attacks in recent months, and more than 6,000 people, mostly civilians, have been killed this year.
It also comes as Iraq’s fractious government remains sharply divided over legislation governing power and wealth-sharing among Iraq’s ethnic and sectarian groups, especially a new and controversial draft elections law that distributes seats in parliament among the provinces.
However, the scandal concerning Al-Maliki’s son has now put the focus on the security forces’ infrastructure, operational capabilities, performance and relationship with the government.
In recent months, there have been increasing signs of growing dissatisfaction with the security forces as a result of their apparent inability to end the insurgency waged by Al-Qaeda, remnants of the former Saddam regime, and other Sunni militants.
Since the withdrawal of US troops from the country in December 2011, these groups have thrived in Baghdad and other Sunni-populated provinces, carrying out daring attacks and almost daily bombings targeting Shias and the security forces.
Tensions between Iraq’s Shia-led government and the Sunni community escalated following large-scale sit-ins across Sunni-populated provinces early this year, in protests against what the Sunnis see as their marginalisation after Saddam was ousted by the US-led invasion of the country in 2003.
Iraq’s security forces stand as an emblem of the sense of insecurity in the country, personifying in Iraqi minds the crux of the problem of rebuilding their devastated nation.
Most Iraqis are losing their faith in the security forces’ ability to ensure security, and while the Sunnis complain that the security forces are dominated by the Shias, some Shia politicians accuse the top army and police commanders of being former Saddam loyalists and say they lack allegiance to the government and interest in fighting the rebels.
On the other hand, many army and police generals have reportedly been complaining about the autocratic and unprofessional way Al-Maliki, also commander-in-chief of the armed forces, has been running the security portfolio.
One of their main complaints has been that he has been stuffing the army and police with unskilled and sometimes untrained officers who are former members of Shia militias or loyalists to Shia groups in the government.
Iraq’s armed forces also face major problems such as corruption, extortion and lack of discipline.
On Sunday, Iraqi newspapers reported that Al-Maliki had formed a new joint operational command for the army and police, apparently to circumvent top generals who are not trusted by the government.
In recent weeks, reports have also surfaced that Al-Maliki’s government plans to form a new elite division that would be tasked with fighting the Sunni insurgency.
Iraq has 17 army divisions that form the backbone of its nearly half a million ground forces plus naval and air force units. In addition, there are some 400,000 police who operate as a paramilitary force.
According to press reports, the new division will be composed of Shias only and will be assigned the duty of protecting Shia-populated areas around Baghdad.
There have also been reports that Shia militias, previously disbanded, are now considering plans to merge in a unified force to fight the Sunni insurgency.
News reports have suggested that the plans to create the new unified militia seemed to have received the blessing of Al-Maliki and other Shia leaders in the government.
The hope is that a unified force will help to protect the Shias and prevent local militias taking matters into their own hands.
Many Shia politicians and clergy have been pressing Al-Maliki to allow Shia militias, such as the Badr Organisation, formed in Iran and fighting alongside Iranians in the Iraq-Iran War in the 1980s, to take part in policing Shia cities and neighbourhoods.
Others have suggested that locals in hotbed areas be armed and allowed to form vigilante groups to defend Shia neighbourhoods.
But critics point to the mistakes and incompetence of Al-Maliki, who has shown himself to be incapable of managing both the political and the security portfolios and stopping the country’s unrelenting descent into chaos.
Central to this deep-seated sense of angst has been Al-Maliki’s failure to achieve the national reconciliation that would bring peace and stability to the deeply divided nation.
His inability, or unwillingness, to craft a credible national security strategy and build all-inclusive armed forces will only serve to reinforce Sunni suspicions and consequently insecurity in the war-torn country.
Many now fear that the politicians’ security responsibilities, such as in the case of Al-Maliki’s son, or the mobilising of Shia paramilitary groups, will provide cover for non-state actors and militias.
This will further exacerbate Iraq’s sectarian conflict and drive the country to the brink of all-out civil war.
عندما كنت جندية
فاليري زيناتي
ترجمة
صلاح النصراوي
ج1 ف2
والأن إلى البكالوريا
“فاليريي ي ي ي!”
ستة أيام بالأسبوع تصرخ “يوليا” بإسمي من تحت شباك غرفتي وهي في طريقها إلى المدرسة.
“أنا نازلة، حالاً.”
تلك كذبة صغيرة.حالاً تعني خمس دقائق، على أقل تقدير.حوالي نصف محتويات خزانة ملابسي مبعثرة على السرير، وأنا لم أرتد ملابسي بعد.ما الذي يجب ألا أرتديه؟ ماذا أختار؟ ربما الأخضر.مرة قال لي أحدهم إنه يجلب الحظ السعيد.ولكني لا أملك إلا جاكيتاً أخضر واحداً وهو متسخ الأن.مالذي ترتديه “يوليا”، هذه المرة؟ ليس بإمكاني رؤيتها جيداً.أنه بنطلون جينز وقميص أزرق، ربما بنطلون أبيض وقميص بنفسجي.أجول في الغرفة يمينا وشمالاً، أقلب الملابس دون أن ألقي بالحقيقة نظرة عليها.
لا قرار.رعب.
اليوم هو الأول في إمتحانات البكلوريا.التاريخ في الصباح، ومن ثم الدراسات التوراتية بعد الظهر.وبصراحة فأني لا أفكر فيهما كثيراً.
أنا لا أعرف مالذي أرتديه.
بسرعة ألتقط تنورة بيضاء من العلاقة بيد، بينما تعبث يدي الأخرى في ركام القمصان لكي تلتقط قميصاً اسوداً.أبيض وأسود.لونان متطرفان.الكل، أو لا شيء.مرة قال لي “جيدي” “كوني الأفضل أو الأسوء، ولكن لا تكوني وسطاً أبداً”.”جيدي” هو مدرس التاريخ ونصف التلميذات وقعن، أو لا يزلن، يقعن في غرامه (النصف الثاني قرروا عدم بحث الأمر، بل اخترن اقامة علاقات غرامية حقيقية).أسود أو أبيض اذا.فبالإضافة إلى أنهما يعبران عن فلسفة معينة فأنهما لونان لا ينمان معاً عن أية أخطاء في الذوق.
جهاز الإنتركم يثقب طبلتي أذني.”يوليا” غاضبة، وأنا لا ألومها، فالساعة الآن هي الثامنة إلا ربعاً.أمر من أمام أمي التي إرتدت وجه القلق.
“لم تأكلي شيئا.”
“لاتقلقي، لدي الكثير من البسكويت في حقيبتي.”
“هل ستأتين على الغداء، سأعمل بعضاً من ….”
المزيد من قرع الانتركم، أكثر تهديداً من ذي قبل.
“لا، سوف نتغدى لدى “راحيل”، والديها ليسا في البيت.”
تبدو محبطة.انه لأمر مؤذ، اذا ما غادرت بهذه الطريقة وقد أغضبتها فأني سأفشل في الامتحان، لامحال.
لذا أقول سريعاً:”إعملي شيئاً رائعاً لهذا المساء فسأكون هنا.”
تبتسم، وتقول “إكسري رجلاً”، وبعدها تهمس في اذني: “أعرف أنك ستنجحين.أنه أمر عادي بالنسبة لك.”
يوماً ما على أن أتحرى لماذا أن تعبير “كسر رجل” يعني حظاً سعيداً.لابد أن هناك منطق وراء ذلك، ولكن ليس بإستطاعتي أن أدركه الآن.كما أن على أعرف لماذا لدى أمي كل هذه الثقة بي في حين أنني دائماً ما أشك في نفسي.ولكن بالتأكيد لن أجد إجابات كل ذلك في كتب المراجع التي لدي.
تتكئ “يوليا” على الحائط وهي تقرع بنغمات سريعة صغيرة بأضافرها الطويلة والقوية.
“لقد تأخرتي طويلاً.هل قررتي أن تتخلي عن البكلوريا وأن تصنعي لنفسك مهنة محصلة في “اكسترافارم”.هل ذلك ما تبغينه؟”
“لا، لم يكن بوسعي أن أعرف ما الذي سأرتديه.”
“حسناً، لقد وجدتي شيئأ.وفي الحقيقة، فأن هذه التنورة ليست سيئة.لكن ماذا دهاك؟ تذكري أنه إمتحان كتابة وليس إمتحاناً شفهياً.”
“أعرف ذلك.ولكني كنت أريد أن أشعر بأني حسنة المظهر-وحتى جميلة.للجمال بذاته.إنه من أجلي.”
“نعم، هذا صحيح.”(لم يكن بوسعها أن تبدي إهتمامإ أكثر)، “إذن، ماهو شعورك الأن؟”
“غريب….”
“عدا ذلك؟”
“شاذ.أشعر بخواء.في غربة.حسناً، تعرفين ما أعني.”
“لا، لا أعرف.”
“هيا.أنه مجرد إمتحان مثل غيره.بالنتيجة أنهم لا يتوقعون منا أن نعرف الأن أكثر مما نعرفه طيلة العام.ولكن في نفس الوقت فان كل واحد يحاول أن يجعل منه شيئاً مهماً.منذ أن إنتقلت إلى الصف الأول وأنا أسمع الكثير عن البكلوريا.مدرس اللغة الانكليزية كان يقول:”عليك بالعمل على التحضير للبكلوريا منذ الأن.الآخرون كانوا يقولون:سترين مالذي تعنيه البكلوريا.إعتقدت حينها أنها مسألة حياة أو موت.أي أحد سيجتازها فأنه سيكون إنساناً خارقاً.أشعر هذا الصباح وكأنني لست أنا هي التي تمضي معك الى المدرسة.كأني ارى نفسي اقوم باشياء دون اكون انا فعلا من يقوم بها.”
“ذلك لأنك تفكرين بـ”جين- ديفيد.”
هاهي تضيع فرصة كان بإمكانها ان تبقي فيها فمها مغلقاً.لو أنها وجهت قبضتها اليمنى نحو فكي لكان ذلك أرحم مقارنة بما قالته.نستمر بالسير نحو بوابة المدرسة.
“راحيل” وصلت قبلنا.تأتي بإتجاهنا.عيناها تلمعان ونفسها متقطع.تلك هي الإشارات التي تعرف من خلالها أنها أما قلقة، أو مضطربة.دائماً ما ترفض أن تعبر عن مشاعرها بالكلمات.حين أخبرها “ليرون”، أول صديق لها بأنه يحبها قالت له أنه ليس جاداً، وأنه سيتجاوز ذلك.لم يحاول مرة ثانية وإنفصلا بعد ذلك بقليل.كان عليه أن يكون أكثر فهماً لها، لكنه هو نفسه كان غريب الأطوار.
“إنه لأمر مزعج”، تقول لنا.”هناك ست قاعات للإمتحانات، وأن ترتيب الجلوس سيكون حسب الحروف الأبجدية.
أسم عائلتها يبدأ بالباء، “يوليا” بالكاف وأنا بالزاد، نحن الثلاث نغطي كل الأبجدية.هناك أوقات أظن فيها أننا نمثل العالم كله بكل تنوعاته.
يقرع الجرس.نقبل إحدانا الأخرى ونتمنى لكل واحدة منا حظاً سعيداً، بينما يراقبنا الآخرون.تقبيل الأصدقاء عادة فرنسية صميمة.”يوليا” تحب تلك العادة بعد أن شاهدت فلما لـ”صوفي مارسو” مرات عديدة(سراً، كانت تشعر أنها شبيهتها).
يمضي قطيع الطلبة إلى غرف الإمتحان.هناك البعض ممن لا يزال يراجع، يتأكدون من التواريخ، يسألون عباقرة المدرسة عن أي خيط.هؤلاء العباقرة الذين عادة ما يكونون بنات يبدون مرعوبات ويبدأن بالصراخ:”لقد نسيت كل شيء، لقد نسيت كل شيء.آخرون يبدون خارج الزمن، هناك إثنان يلفان ذراعيهما أحدهما حول الآخر كأنهما في عالم ثان وكأن مجرد إظهار الحب أمام الآخرين هو جواز سفر إلى البلوغ.بالعبرية، وأظن بالألمانية، البكلوريا تعني البلوغ.
إمتحان التاريخ (الذي هو بثلاث درجات) ينقسم إلى قسمين.
تاريخ “الهولوكوست” (درجة واحدة).
التاريخ العام (درجتان).
ذلك هو التاريخ.”الهولوكوست” منفصل، إنه موضوع تاريخي ولكنه مع ذلك خارج إمتحان التاريخ نفسه.قسم إجباري، موضوع قائم بحد ذاته.ليس موضوعاً عابراً، مثل قصة “دريفوس”، الحروب النابليونية، العصر الذهبي ليهود إسبانيا، أو الحروب الصليبية.ليس هناك إسرائيلي واحد يجلس لإمتحان البكلوريا دون أن يمتحن بـ”الهولوكوست.ستة ملاين ماتوا، إشرح متى، من، أين، كيف ولماذا؟عليك أن تكون دقيقاً في الأرقام، في التواريخ، مع أسماء الجلادين، تحفظ فصول من كتاب “كفاحي” وشعارات الدعاية النازية، تعرف أسماء المعتقلات، بتسلسل فترة بنائها، تميز بين معسكرات السخرة، ومعسكرات الموت، تعرف أنه كانت هناك حياة بكاملها وثقافة في الغيتوات، المدارس والإنتاج المسرحي، دور الاوبرا.تذكر إملاء كلمات “اينساتغربون” و”اوبرستاربانفير”،لا تنسى عمليات الفرز، أولئك الذين على اليمين يتم إعدامهم بغرف الغاز فوراً، أولئك الذين على اليسار سيعيشون فترة أطول قليلاً، يموتون كل يوم.احفظ عن ظهر قلب قوانين “نورمبرغ”، من هناك بدأت الإبادة.يتم إنتقاء الناس ثم يعزلون، ثم يؤشرون-تلك هي عملية قتل بطيئ.الحل النهائي، مؤتمر “وينز”،أقرأ كل ما بوسعك عن هذه الموضوعات، دون ملاحظاتك، رتب أوراق المراجعة.إنها قصة مهولة، تروى خلال آلاف الكتب والفصول والأجزاء، قصة إبادة يهود أوربا، ألمانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، بولندا، روسيا، تشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا (كما كانت تعرف حينذك)، اليونان، هنغاريا، إيطاليا.يا الاهي كم تبدو أوربا بلاداً مهولة.
وهكذا، إمتحان “الهولوكوست” هو بداية إمتحانات البكلوريا، وهو أول خطوة نحو طريق البلوغ.
أجلس، ومثل كل الباقين أضع قنينة ماء أمامي.شيء مذهل كمية المياه التي يشربها أحدنا خلال الإمتحان.أوراق الإمتحان على وشك أن توزع ورويداً، رويداً تختفي الهمهمات.الأن ما عدنا نتواصل الا عن طريق الإشارات.ينفخ كل من “ألون” و”ميكي” وجنتيهما، وتتقلب عيناهما، في إشارة إلى أنهما يتوقعان صعوبة الإمتحان، أما “تال” و”رافي” فأنهما يقومان بحركة ساخرة بوجهيهما، محاولين إمتصاص بعض التوتر خارج اللحظة. يبدو الأولاد مشدودين أكثر من البنات، البعض وضع رهاناً على أي من الأسئلة ستأتي في الإمتحان.الساعة هي الثامنة إلا دقيقتين.تأتي نائبة المدير حاملة معها ظرفاً بلاستيكياً أسمراً كبيراً.تديره من كل الجهات لكي تبرهن أنه محكم الإغلاق، ومن ثم تخرج الأوراق منه وكأنها أثمن ما يمكن أن حملتها أيدها خلال سنين طويلة.
الإرشادات، التي ستردد كل يوم وسنحفظها جميعاً عن ظهر قلب، يقرأها “أفي” طالب الرياضيات الغريب الأطوار الذي يكاد صوته يخرج بالكاد من زوره.
“سيبدأ الإمتحان عند الساعة الثامنة تماماً، وينتهي عند العاشرة بالضبط.ومن ثم سنقوم بجمع الأوراق ونوزع أسئلة إمتحانات التاريخ العام.ذلك الإمتحان سيستغرق مدة ثلاث ساعات.إستخدام الحاسبات ممنوع بتاتاً.
اسم العائلة أولاً:
رقم الهوية:
تاريخ الميلاد:
….وكذلك إستخدام القواميس….
المدرسة:
تاريخ الإمتحان:
مادة الإمتحان:
الدرجات:
“إذا أردتم إستخدام الحمامات، فلابد من الذهاب بصحبة مرافق.بإمكان شخص واحد فقط مغادرة القاعة في وقت واحد.لايمكنكم ترك القاعة لأكثر من خمس دقائق….”
تاريخ “الهولوكوست”.درجة واحدة.
“هل لي بتذكريكم بأن لديكم خياران.لاتنسوا ذكر أي خيار من الأسئلة إخترتم.وهل لي أن أذكركم بأن عليكم عدم كتابة أسمائكم على ورقة الإمتحان لأي سبب..لا يجوز لكم كتابة الأسم، أو شيء بإمكان الممتحن أن يتعرف عليكم من خلاله.”
السؤال الأول:1935–1938.صف، ومن ثم علق مع التأكيد على الأحداث المهمة التي وقعت خلال هذه السنين الأربع فيما يتعلق بتطبيق سياسات الإضطهاد النازية تجاه اليهود.*
السؤال الثاني:غيتو “وارشو”، 1940–1943.
هناك جو من الراحة يهيمن على القاعة.الواضح أن البعض قد كسب رهانه.أتردد قليلاً بين السؤالين.الأول تقني إلى حد ما، واضح، ما عليك الا ان تشير إلى قوانين “نورمبغ” وليلة الزجاج.*، لتحليل التطورات المتعلقة بالعنف الإجتماعي الذي شجعه القانون، ومن ثم بدء العنف البدني، تدمير الممتلكات وأخيراً تدمير الحياة البشرية.السؤال الثاني أوسع كثيراً.الغيتو هو الحياة والموت جنباً إلى جنب، عوائل تكدس معاً، العمل الإجباري، الجوع، المرض، الأغاني، الثقافة، التنكيل، الإذلال، العزل، والتمرد الذي يقوده حفنة من الشباب الذي كانوا في أعمارنا.أعمارهم ستة عشر، سبعة عشر، ثمانية عشر، يحملون البنادق في آياديهم، مع قليل من الرصاص لكي يقفوا بوجه الجيش الألماني لأكثر من شهر، بندقية، وبضعة رمانات وقليل من الطلقات، في مواجهة الدبابات وأيضاً الطائرات.كانوا يعملون أي شيء لكي يموتوا مرفوعي الرأس، كمقاتلين، كجنود، يواجهون جنوداً آخرين وليسوا كضحايا يواجهون جلاديهم.أنا لم أعد في قاعة الإمتحان، لم أعد أجلس لإمتحان البكلوريا.أقف أمام واحد من قادة التمرد في غيتو “وارشو”، “موردخاي أنيلفيتش” الذي رأيت صورته في متحف “ياد فاشين”.صورة بالأسود والأبيض، باهتة قليلاً، لرجل جميل المحيا وصارم الملامح، من الطبيعي أن يكون جميلاً وصارماً.وأنا كذلك سأكون قريباً جندية وسأحمل السلاح بيدي، ولكن ليس هناك من مقارنة بين الأثنين، والمثال الذي ضربته مثير للسخرية.
أتيح لعقلي أن يحلق بينما الوقت يمضي…تك… تك..تك.بإمكاني القول أني لو أخترت سؤال الغيتو فسأكتب قطعة من الشعر.سأضع جملاً حزينة ومثيرة للعواطف، وأظني سأبكي كذلك.ستغرق دموعي الورقة الإمتحانية وسأفقد بالنتيجة عشر درجات.(تحسب الدرجات على أساس مائة بالمائة وحسب ما يقوله المعلمون فان الأجوبة يجب أن تكون جيدة لكي تنال الدرجات العشر.)
*(نوفمبر 10/ 1938 ليلة تعرض فيها اليهود الى مذابح في المانيا)
علي اذاًَ أن أختار السؤال الأول.
طالب الرياضيات يعد الذباب.بين حين وآخر يمشي بين الصفوف، يتظاهر بأنه مهم.كل ربع ساعة يعلن كم الوقت تبقى.يبدو حزيناً.ربما هو أيضاً ينتظر، ينتظر نداءً تلفونياً لا يأتي أبداً.أو ربما ما هو أسؤ من ذلك.هو لم يقع بالحب من قبل فالرياضيات هي كل حياته.
خلال فترة ثلاث سنوات أسس النظام النازي جهازاً للقمع في إطار القانون.إنطلقت آلة الكراهية التي تقود كل شيء، من الفصل العنصري داخل المجتمع إلى تدمير الإملاك والحياة نفسها.نظام من الرعب تم بناءه تحت أبصار الأمم الأوربية الأخرى.هنا بدأت كتابة أكثر صفحات التاريخ الإنساني ظلاماً.
عضدي يؤلمني ولكني أشعر بسعادة مع نفسي.كتبت ثمان صفحات وأظن أنها واضحة بما فيه الكفاية.وأخيراً أرفع نظري للمرة الأولى منذ ساعتين.أولئك الذين إنتهوا ينظرون بعين أحدهم الآخر.”ألينا” و”رينات”، البقرتان الممتلئتان تجران أنفاسهما بصعوبة بينما تدونان جملاً سريعة في اللحظات الأخيرة، وبعدها يبدأن التوسل إلى طالب الرياضيات لكي يدعهما تكملان.كلمة واحدة أخرى فقط، مجرد ربع نقطة فقط، ربما…
لا وقت لدينا لكي نلاحق أنفاسنا.علينا أن نولي إهتمامنا لورقة إمتحان التاريخ العام.نعيد كتابة أسمائنا، الموضوع، التاريخ.هناك ثلاثة أسئلة مطروحة.
1-مولد الأمم المتحدة؛
2-الحرب الأهلية الأمريكية؛
3-ثورة أكتوبر.
لا أتردد ولو للحظة واحدة، وأبدأ على الفور الكتابة عن الموضوع الثالث، حتى قبل أن أبد بالتفكير حوله.أبدأ هكذا:
ساعد حكم القيصر “الكسندر الثاني” على إنطلاق مشاعر الأمل في روسيا إلى حد كبير.كان يتهيأ لكي يمنح روسيا دستورها الأول حين قتل عام 1881.اما “الكسندر الثالث” فقد كان بعيداً جداً عن متابعة تلك الثورة الديمقراطية وأمعن في إخضاع شعبه وولد ذلك إحباطاً وغضباً.
مضيت بعيداً، أدرك ذلك.كانت ثورة أكتوبر عام 1917 وليس عام 1881.أي ممتحن نحس سوف يشطب الفقرة الأولى برمتها بجرة من القلم الأحمر، ليس لأن بإمكاني رؤية ذلك ولكن لأنه سيشعر بحالة أفضل.لا حيلة فأنا من المعجبين بـ”الكسندر الثاني”.أنا اتحدث عنه في أية مناسبة.ربما يعود الأمر إلى فلم رائع كنت قد شاهدته حوله وحول عشيقته “كاتيا”.لقد قرأت بنهم كل ما وقع تحت يدي بشأنيهما.يقال أن “كاتيا” هي التي أقنعت القيصر بأن يتبنى السياسات اللبرالية وأنها كانت ملهمته.عندما يروقني الأمر فأني أنحو إلى الإقتناع بمثل هذه الإشاعات (حتى حين يكون قد أضفي عليها طابع رومانسي جدي).ربما أراد “الكسندر” تتويجها امبراطورة بعد وفاة زوجته.(كانت توصف في الكتب التي لدي بانها عجوز لا لون لها، هزيلة مثل خيزرانة، بملامح صارمة، أي بمعنى آخر كانت نقيض عشيقته).لم يكن لديه متسع من الوقت، وبالتالي فأن “كاتيا”، وأسمها الكامل “كاترينا دوغلوروكي” نحيت جانباً من قبل العاهل اللاحق.غادرت بعدها إلى فرنسا حيث توفيت في “نيس”.
على أي حال، إن مجرد ذكر أسم “الكسندر الثاني” يضعني في مزاج رائق، وفي نهاية يوم الإمتحان هذا أشعر بثقة عالية.
في الفرصة التقيت بـ”راحيل” و”يوليا”.كانت الأولى مطأطأة الرأس، أما الثانية فمتوترة.لم يكن لدي الجرأة أن أسأل اي سؤال.”يوليا” تضع ذراعها حول “راحيل” وأنا أفعل الشيء ذاته، دون أن ننبس ببنت شفة.نبقى هكذا لدقائق، نهزها برفق، ونتجاهل نظرات المارة الذين يتجمعون حولنا وكأن هناك حادثة.
“هل تردن ساندويتشات، أم أننا سنذهب للغداء عندك كما خططنا؟” أهمس.
تحدق بالأرض، ثم تحول عينيها بحدة نحوي، بنظرة ملئها فرح زائف، أحسها مؤلمة.ليس بالإمكان تخمينها.”بالطبع، سنذهب إلى بيتنا.أمي ملئت الثلاجة برمتها، وجعلتني أقسم لها باننا سنأتي على كل الطعام الذي فيها.”
“هيا بنا نجري، إذن.”
“هيا.”
ذلك مانفعله دائماً.شيء ننفرد به نحن الأثنتين.في اللحظة التي يكون هناك شيء ما في داخلنا فأن الأخرى تقترح الجري.ليس المهم من سيفوز.”راحيل” هي التي تفوز لأنها بطلة المدرسة بركضة مسافة ال 100متر وال 400 متر(بغض النظر عن المسافة فأنها تغلب الصبيان ونحن نفخر بذلك كثيراً).ما يهم هو ذلك الشعور الذي يربطنا به الجري سوية.فنحن نرمي وراء ظهرينا كل ما يمكن أن يزعجنا، أي شيء يمكن أن يقلقنا.إنها وسيلة أخرى للهروب من أنفسنا.
لا تزيد المسافة إلى حيث تسكن “راحيل” عن مائة متر.ننتظر “يوليا” التي تمشي هويداً هويداً.ملامحها تنم عن الفوقية، مثلما هو غير مفهوم.بإمكاني أن اسمع كلمة “صبياني” تتردد في رأسها حين ترسم تلك الصورة على وجهها.حين تكون على تلك الهيئة، تبدو صداقتنا وكأنها في مهب الريح.بدأت أشعر بذلك منذ بضعة أشهر، وتأكدت منها اليوم.أضغط على نفسي لكي افكر بشيء آخر، عن الأسئلة التي سوف تأتي في إمتحان الكتاب المقدس بعد ظهر اليوم.
“لقد أصبت برعب حقيقي في إمتحان التاريخ العام”، تهمس “راحيل”.لم اكتب شيئاً، لا شيئ على الإطلاق عدا أسمي وبعض التفاصيل.”
أعصر يدها بقوة.أعرف أنها لن تخبر أحداً بما أسرتني به الأن.إنها شديدة الفخر بنفسها، كتومة، معقدة والبعض حتى يقول أنها ملتوية.ولكني أحبها مثل أختي، كأنها مثيلتي، صديقة بإمكاني أن أقسم يمين الإخلاص لها مدى الحياة، حتى الموت.
عاصفة الإمتحانات تتجدد بسرعة، وطقوسية الإرشادات تجعلني أشعر وكأنني أمثل نفس المشهد، مرة تلو الأخرى لمجرد الإمتاع السادي للمشاهدين الغامضين.
الدراسات الإنجيلية.عالمية رسالة النبي “عاموس”.
البايولوجيا:ميكانزما الـ دي. ان.اي.
اللغة الأنكليزية:خطاب “مارتن لوثر كنغ”” لدي حلم.”
الأدب:البطل المضاد عند “ديستيوفسكي”.
بعد إنتهاء إمتحان الأدب طرأت لدى “جين-ديفيد” تلك الفكرة السيئة في أن يتصل بي هاتفياً.كان متلعثماً ويداخله شعور بالذنب والحرج، وهو يحاول أن يشرح لي، مع الكثير من عدم التركيز والإرتجاف في صوته، أنه إلتقى ببنت في القدس وأن الأمور تجري بينهما بشكل جيد.قال أنه يأسف على ذلك.لكني كنت سأذهب إلى الجيش على أي حال، ولن يكون بإمكاننا أن نلتقي بإنتظام، سألتقي بأناس أخرين، أبدأ حياة جديدة.من الطبيعي أن بإمكاننا أن نبقى صديقين.هو يرغب أن يراني مرة ثانية.أجيبه بصمت طويل قبل أن أقول له وداعاً مصحوبة بأهة مع أول دمعة، ثم أجري لكي أبكي في ذراعي “راحيل” و”يوليا”، لوقت طويل.
يعلم الله وحده مالذي إرتديته في امتحان الرياضيات في اليوم التالي.لم أذرف دمعاً كما فعلت حين أجبت على أسئلة إمتحان “الهولوكوست”، ولكن حين جاء دور مسائل المثلثات، والتي لا أستطيع عادة حلها بشكل كامل، كان هناك قليل من البقع الصغيرة.
سأجتاز البكلوريا، ذلك شيء يكاد يكون مؤكداً.ولكن مهما كان الأمر فأنه لا يقلقني الأن.أنا مجرد جرح يمشي.حين تطلع النتائج في أكتوبر سأكون جندية.سأعيش في ذلك العالم الغريب الذي تدخلة مراهقاً، وتخرج منه على ما يبدو، ناضجاً.
***
عندما كنت جندية
فاليري زيناتي
ترجمة
صلاح النصراوي
الجزء الاول
ثلاث بنات وسط الصحراء
“نحن ثلاث فاشلات في أرض الفاشلين”، تقول “يوليا” وهي تلفظ كلماتها وترفع حاجبيها بتعبير لا يسمح لاحد أن يجادلها فيه.”هذا جحر العالم”، تمضي بالقول، “ولا يمكن أن يأتي شيء مميز من جحر العالم هذا.”
أنظر إلى تلك العينين الزرقاوين اللتين تفخران بهما، خاصة بعد أن ألبستهما عدستين لاصقتين.في السابق كانت ترتدي نظارات بلاستيكية ذات عدسات سميكة، بشعة، كما أن عينيها كانتا تعانيان من إنحراف وبعد نظر وإستكماتزم، وكما كانت تقول عمتي، فان عينيها كانتا تومضان.لقد تحملت كل ذلك العبأ طيلة سنين طفولتها.ولكن منذ أن إستبدلت النظاراتين بالعدستين الصغيرتين فكأنها كانت تسعى لأن تجعل العالم كله يدفع ثمن الإذلال الذي كانت تشعر به.الأن بدأت تنتقم.أحياناً كل ما تستطيع أن تراه في عينيها هو غضب وإحتقار، أو حتى أخس من ذلك.حين تتكلم مع اساتذتها، أو مع أحد الأولاد، تكذب، في حين أن عينيها، زرقاوتان وشفافتان، تلبسان قدراً لا يمكن تخمينه من البراءة.أنا أكره تلك العينين الزرقاوتين الكبيرتين.أنا أكره عيني صديقتي المفضلة، كراهية حرباء غاضبة، عاجزة، مثلما أشمئز من الطريقة التي تتكلم بها أحياناً، بفم ممزوز، مليء بالنتانة، وكأنما تحاول القول أنا حرة الأن.”أنا لم أعد تلك البنت الصغيرة، اللطيفة.”
على أي حال، إنها صديقتي، علي الإقرار بذلك، وهي بدورها تقر بذلك أيضاً.في المدرسة يصفوننا باننا صنوان، لا يفترقان، ليس بإمكان أحد أن يصادف أحدانا دون أن تكون الأخرى هناك.نجلس جنباً إلى جنب، منذ أربع سنين، ونكلم احدانا الأخرى بمعدل ثمان مرات يومياً.عندما لا أكون معها أكون مع “راحيل”، صديقتي المفضلة الأخرى.
كلاهما ولدتا في ما كان يدعى سابقاً بـ”الإتحاد السوفيتي”.”يوليا” تنحدر من “طاشقند” في “أوزبكستان”.هي مغرمة بنطق هذه الأسماء، “طاشقند”، “سمرقند”، كأنما تتعامل مع كنوز تلمع في زاوية كل شارع هناك.أمام الآخرين القادمين من “روسيا” تشدد دائماً أن والدها من أصول ألمانية، وأن أمها رومانية.وبإمكاني القول أنها تشعر بالخجل من “أوزبكستان” التي يظن الآخرون بانها لابد أن تكون الموضع الذي يقع فيه جحر العالم.شخصياً ليس لدي أية فكرة واضحة عن تشريح جسد الكرة الأرضية.
“راحيل” ولدت في “بيندري”، وهي مدينة صغيرة بالقرب من “كيشينيف” في “مولدافيا”.عندمت تلفظ أسم مدينة طفولتها، فانها تشدد على الياء، كما ينزلق صوت الراء، مثلما يفعل الناطقون باللغات السلافية، وهي تطيل الياء الأخيرة مصحوبة بإبتسامة.بالتأكيد أنها ممن يدعون بمرضى الحنين للأوطان.
ولدت في “نيس” في “فرنسا” وهو ليس أمراً عادياً.بل هو امر مثير للإنتباه.ذلك ما يجعلني بالنسبة للجميع، مختلفة، نوعاً ما عن الآخريات كما يجعلني مثيرة للفضول، أو حتى فاتنة للبعض.كل ما علي هو أن أفتح فمي حتى يجتمع الناس من حولي.دائماً ما ييسر ذلك معرفتي بالناس، لكن من الممكن أن يكون الأمر أيضاً مثيراً للضجر، خاصة اذا ما تطلب الأمر أن تقول شيئا بالفرنسية… بودلير، كاميمبير، سوليتود، اينفانت تيربل، أي شيء يمكن أن يخطر على بالي.ما يهم بالنسبة لهم هو الأصوات التي تأتي منها، خاصة كلمات تحتوي على الأصوات، أي ، أو، آ، دو، دا، دينودو، كل الأصوات التي لا تتوفر في لغاتهم، والتي يجدونها مثيرة وغريبة.والفضل يعود إليهم أنني أكتشفت أن اللغة هي أولاً وأخيراً نوع من الموسيقى، وأنها تجميع للأصوات.وهم يحبون أي شيء يمكن أن أقوله لهم، لأني لا أستطيع التفكير في ما يمكن أن أقوله لأناس لا يفقهون كلمة مما أقول.ذلك يفطر قلبي لأني بالحقيقة أحب الكلمات، أنا مغرمة بها، وأبدي إحتراما لها وأحاول أن أسبر أغوارها الغامضة، وأن أستخدمها بتأن في كلا اللغتين؛ لغتي الأم الفرنسية، واللغة الأجنبية، العبرية.
لكن أي من الآخرين لم يكن ليكترث بذلك ولم يتوقفوا من القول ،”رجاء قولي شيئاً بالفرنسية.”
نحن نعيش في “بئر سبع”، مدينة يسكنها حوالي 100,000 من البشر، وتقع في صحراء النقب في إسرائيل.من السماء تبدو المدينة شبيه بـ”اطلانطا” (عدا بناية السي.ان.ان والملعب الأولمبي)، مكعبات رمادية تقوم على رمال رمادية.وأي إنسان يعتقد إن الصحراء هي مجرد إمتداد للرمال الصحراوية البيضاء تتخللها واحات صغيرة هنا وهناك، لابد وأن يكون من أولئك الذين يكثرون من مشاهدة أفلام الكارتون.يالهنائهم، دائماً ما أغبطهم.
منذ أن وصلت إلى هنا قبل خمسة أعوام مع والدي وشقيقتي وأنا على إعتقاد أن الصحراء قميئة، ومضجرة، وبلا أية غاية.الشمس فقط والتي تغيب كل مساء ببريقها المتوهج هي التي تبرر حقيقة أن لا شيئ غير ذلك هناك.
لدي صديقتان مفضلتان روسيتان ذوات عيون زرقاوتين وشعر كستنائي، لكنهما لا يشبهان بعضهما إطلاقا.نحن بلغنا، على وشك أن نبلغ، الثماني عشرة عاما.خلال شهرين سوف نمر بإختبار البكلوريا المرهق.
وخلال ستة أشهر، بالإقل، سنتستبدل قمصاننا ذات الكم القصير بقمصان وسروايل الخاكي.الجيش سيكون بإنتظارنا.الجنديات “يوليا”، “راحيل”، وأنا.
حالياً نضطجع على العشب وسط حذوة الحصان التي تشكلها العمارات السكنية التي نعيش فيها.العقار يدعى “المنطقة السكنية للمهاجرين الجدد”.ليس هناك أية علامة تقول بالإبتعاد عن العشب، كما أن الناس هنا يتكلمون نحو خمس عشرة لغة مختلفة.
نحن نتكلم عن الليلة الماضية، ونعيد تكرار ما قلناه مرات عديدة، عن الحفلة التي أقمناها في منزل “إيلان”، هو واحد من مجموعة صبية أخذوا يصبحون قربين منا.
“نفس القصة القديمة”!، تتذمر “يوليا”.”بعض الكوكولا، بعض “الفودكا”، والأولاد يرقصون مثل بطات سكارى، البنات يشعرن بالضجر، أنت تتعرقين ويذبل مكياجك فتذهبين إلى الحمام لتضعي طبقة جديدة، ولكن لمن، لمن؟”
“راحيل” وأنا نأخذ القرار الصحيح، بأن نبقى صامتتين بعد أن شعرنا بذلك الملل.نحن معتادتان على تأوهات “يوليا”.بعد دقيقتين ستقوم واقفة وتمزقنا إرباً أربا، بجملة حادة واحدة، نحن وجحر الجحيم هذا، أو أنها ستغير الموضوع إلى آخر جديد تماماً…مثلاً.
وهي بطبيعة الحال ما تفعله الآن.
“على أي حال.الجميع كانوا ينظرون إلي طيلة الليلة.أنا أحياناً أتساءل لماذا..بالتأكيد ليس لأني أرتدي ثوباً أنيقاً، مثلك يا “فال”.”
أسرق نظرة سريعة إلى “راحيل” التي لا تحاول أن تخفي إبتسامة ماكرة.
“نعم” توافق “راحيل”:جثوا جميعاً تحت قدميك، متيمين، سائلين الشفقة، مستسلمين، مثيرين للسخرية…إنه وضع تعجز الكلمات عن التعبير عنه.من أخترت في النهاية؟
نظرة غاضبة من “يوليا”.
شعور من الإشمئزاز يهبط في داخلي.
اذا ما أستمر الأمر على ما هو عليه فسيكون هناك شجار، صراخ، ثم تبادل للشتائم.يزلزلني الغضب.كلما يرفع الآخرون أصواتهم يشحب لوني، ثم يحمر، وأبدأ بالإرتعاش.أقف هناك صامتة، وتبدأ عيناي بالحكة، وأشعر كم أنا غبية، وبلا جدوى.وسرعان ما أغير الموضوع.عن إمتحان البكلوريا، مثلاً.
هل انتهيتم من ملاحظاتكم حول “الجريمة والعقاب”؟
“نعم”، تجيب “راحيل”، “لكن لدي مشكلة.ففي الروسية الكلمة هي الجريمة أما بالعبرية فانها مترجمة إلى “إثم”، وهي ليس كذلك.”راسكولينيكوف” يرتكب جريمة، نقطة.”
“لكن الجريمة إثم”، أجيب.”لابد وأن ديستوفيسكي رأها كذلك، فلقد كان مؤمناً شديد الإيمان.”
“ماذا عن “الغريب”؟ تقاطع “يوليا”، “هل أنتهيت منها؟”
“لا مشكلة لدي فيها، فقد قرأتها ثلاث مرات.ولقد أنهيت كل ملاحظاتي حول كامو، الجزائر، اللامعقول، عقوبة الإعدام… دعونا نأمل أن تأتي الأسئلة عن ذلك.”
“لذلك، ليس من الغريب أن تكوني مغرمة به، أنه فرنسي.”
“وماذا في الأمر؟ لا شأن لهذا بذلك.هل أنت مجنونة بـ”ديستوفيسكي” فقط لأنه روسي؟”
“كلا”، تجيب “يوليا”.
“نعم”، تعارضها “راحيل”.
“هل ستعيرينني ملاحظاتك عن “كاميل؟”، تسألني “يوليا” دون تكلف.
“حاولي أن تلفظي أسمه بشكل صحيح ولو لمرة واحدة.”كاميل” أسم امرأة، أسمه “كامو”..كام..او.اما بالنسبة للملاحظات ف…. فلا جدوى لك بها فقد كتبتها بالفرنسية.
انا متأكدة أنها لاحظت ترددي من الطريقة التي أشاحت بها وجهها بشكل حاد.ولكن ظلت هناك إبتسامة صغيرة إرتسمت على شفتيها وهي تطوي بذقنها إلى أمام.
“يا بنات أنظرن من الآتي.”
نجول بنظراتنا نحو الجهة التي نظرت إليها.إنها “ألينا”، أو دورق الألوان، كما نسيمها، تمضي نحونا.هي من ضمن الأشياء الخمسة التي تدور حولها احاديثنا المفضلة، إلى جانب الأولاد والمعلمين ومواضيع امتحانات البكلوريا.بإمكاننا أن نمضي بالحديث عن ملابسها لساعات طولية.عادة ما ترتكب خطأين واللذان نعتبرهما لا يغتفران، فهي ترتدي ملابس بلون الأحمر إلى جانب الزهري، أما أحمر الشفاه التي تضعه فانه يوحل أسنانها.كثيراً ما نضحك عليها بشكل صريح.أدرك أن ذلك أمر شنيع ولكننا نحتاج إلى “ألينا”.إنها طراز من البنات بإمكان أية بنت أن تقف إلى جانبها لكي تشعر بانها مشرقة، وفاتنة، وأنيقة.على أي حال ، لديها دائماً إهتمام في أحاديثنا دون دعوة.تذكرني الطريقة التي تمد بها اذنيها لتصغي، وتتعبيراتها المثيرة للشكوك، بعانس عجوز معقوفة الأنف كانت تدير ملجئاًُ قبل الحرب، وبطبيعة الحال لم يتسنى لي أن أقابل إحداهن أبداً، ولكن الخيال هو احدى مميزات البشر.البنت يمكن أن تكون جاسوسة ممتازة.
“هل سمعتم آخر الأخبار؟”
“لا، نقول جميعنا في نغمة واحدة.”
تلك هي حقيقة خالدة.ليس هناك أبداً أحد سمع آخر الأخبار.عدا طبعاً من يحاول إعلانها بشئ من التبجح.
“البرتقالي، هو لون الصيف.هل تصدقون ذلك؟”
“هــمممممم.”
“لا أصدق.”
“لا يمكن أن يكون ذلك.”
لسبب ما قررنا يوماً ما أن اللون البرتقالي لا يليق بنا.إنه يناسب فقط البنات اللاتي لا مستقبل لهن.”إلينا” تعرف ذلك وهي تستمتع بان تغيض مجموعتنا الصغيرة.
“إسمعوا”، أتنهد، “أنا لا أكترث كثيراً أو قليلاً بالبرتقالي.تعرفون أني سأكون غارقة بالخاكي قبلكم بكثير.”
يهبط صمت مهيب.
“على أي حال، أنا مغادرة.”أقول، بينما أنط من مكاني.”لدي عمل لأنجزه.”
أمشي فوق العشب بخطوات سريعة، أحاول قدر الإمكان أن أبدو مثل “فايه دانوي” في فلم “بوني وكلايد”.لا أنظر إلى الخلف ولكني أعلم أن البنات يراقبنني.اذا كان هناك شيئ وحيد أنا متيقنة منه فهو أنهم يحسدون ساقي.ذلك شيئ لا يجعل الإنسان محبطاً في هذا العالم.
تنتهي المحاضرات في المدرسة في الساعة الثانية.ليس هناك مطعم أو وقت مخصص للغداء.نحن ندرس على إمتداد فترة ممتدة ثم نكون أحراراً بعد ذلك لباقي ساعات اليوم، لنذاكر أو نمارس الرياضة أو نشاهد التلفزيون.اما أنا فاني أشتغل في صيدلية كبيرة، واحدة من سلسلة صيدليات، حيث أعمل تحت مسمى متبجح، وهو “منسقة عرض.”وبالأساس، فان ذلك يعني أن علي أن أمضي بين ممرات الصيدلية عرضاً وطولاً، منهمكة في ترتيب المنتجات على الرفوف، كي تظل دائماً منظمة ومملوئة بكل أنواع الشامبو، ومزيلات الروائح، وفوط الصحة.والواضح أن الهدف من ذلك هو جعل الزبون يكسر هذا الترتيب الممل، ومن ثم يقوم بشراء البضاعة.بين فترة واخرى يتم نقلي إلى قسم العطور للقيام بعملية تغليف المبيعات التي تقدم كهدايا حيث أستمتع بإختراع أشكال مختلفة من الأغلفة بطويات معقدة ثلاثية أو خماسية مع حافات ثنائية، أو رباعية.هم يدفعون لي لأني أمضي وقتاً أعمل خلاله شيئاً فيه بعض الجمال في حين أن شخصاً ما سيقوم بإزالته بمجرد حركة سريعة.
عندما، أطلعني “رافي”، رئيسي في العمل، على فلسفة محلات “اكسترافارم” بعد أن وظفني قال لي خلال عشرين دقيقة ما خلاصته إن الزبون ملك، ما يريده هو أوامر، نحن خدم بين يديه، وعندما يدفعنا إلى الإنهيار العصبي، حين يتردد بين شراء مسحوق غسيل، بـ، أو بدون منعم للملابس (مرعوبين من أن زوجاتهم قد يقلبن الدنيا اذا لم يستجيبوا لطلباتهن)، فأن علينا أن نطبع إبتسامة حلوة وودودة على شفاهنا، وأن نساعدهم في إتخاذ القرار خلال تلك اللحظات الحاسمة.
وبعد أن أعطاني “رافي” مثالين أو ثلاثة عن حالات من هذه يمكن أن أواجهها في عملي الجديد الرائع ذي المستقبل الواعد أعطاني عقد عمل “اكسترافارم” والتي تعيد التذكير بأن على العمال أن يظهروا تواضعاً أمام الزبائن.تعلمت كل ذلك سريعاً عن ظهر قلب، ليس إيماناً، أو خضوعاً، بل لانها كانت معلقة على جدران المراحيض وغرف تبديل الملابس حيث أقضي وقتاً لابأس به كل يوم.بعض منها:
لاتقل:هذا ليس من اختصاصي، أطلب من (سين) في فرع (صاد)، بل قل: إتبعني سأخذك إلى شخص على إطلاع بهذا الفرع.
لاتقل:ليس لدينا ما تبقى في المخازن ولكن قل:ان هذا المنتج مرغوب جداً، ونحن بإنتظار الإرسالية الجديدة في أي وقت.اذا ما تركت لي عنوانًا فأنني سأكون سعيداً لكي أبلغك متى ما وصلت.
لاتقل:وداعاً، بل قل شكراً لكونكك زبون دائم، آمل أن نراك قريباً.
ومن الواضح أن الوصايا السبع الأخيرة هي على هذا المنوال.
في البداية، لم يكن بإستطاعتي التوقف عن العض على شفتي حين أرى تعابير الحبور وهي ترتسم على وجوه العجائز من الرجال والنساء من بولندا، أو المغرب، غير قادرين على الكلام لرد المجاملة، ولكني تعودت على ذلك بمرور الوقت.كنت أضع نفسي مثلما توضع الطائرة على جهاز الطيار الآلي، واذا ما نسيت تلك الطبيعة العلائقية لعملي، فان ساعتي سرعان ما تذكرني بذلك.بإمكانك أن ترى ان الفقرة الاخيرة من العقد تنص على ما يلي:ضع ساعتك على رسغك الأيمن، وليس الأيسر حتى تتذكر دائماً أنك عامل إستثنائي في مؤسسة إستثنائية، وفي خدمة زبون إستثنائي.
واذا ما سألتني فان إختيار الساعة كان ذكياً من قبل مدراء “اكسترافارم” لانهم يدركون أنها من الأشياء التي تساعد على التذكير، لأن النظر إلى الساعة هي من أكثر العادات شيوعاً بين العاملين.لكن العقد لا ينص فيما اذا كان على المؤسسة أن تشتري ساعة للعاملين الذين لايمتلكونها.
دعوني أقول كذلك بأننا أقل أجوراً مما ينبغي.فالدفع هو على أساس ساعات العمل وهي 120 ساعة أساسية شهرياً بعد إستقطاع التأمين الإجتماعي ومساهمتي لصندوق التقاعد (على الرغم من لدي مشكلة في تقيم فائدة تلك الأخيرة).ولكن أن تكون عاملاً متميزاً في مؤسسة متميزة هو شيئ جيد بحد ذاته، فليس بإمكانك أن تطالب بالمزيد من المرتبات فوق كل ذلك.
عندما أفكر بذلك فأنني أقتنع بأني في فترة لاحقة من حياتي سأكون نقابية عمالية.أو ربما ثورية.وفي اليوم الذي سأصبح فيه ذلك، فأنهم سيضيفون صفرين إلى كل صكوك الراتب، أو ربما لن يكون هناك صكوكاً أساساً، وسوف لن يكون المال ذلك الشيء الغريب الذي من أجله يمكن أن أكون مستعدة للعب دور البهلوان (ظاهرياً، مع بعض الشطارة)، بين تلك الممرات التي تفوح منها روائح الصابون ومساحيق الغسيل والعطور الباهظة الثمن.في ذلك اليوم لن يشعر أحد بالمهانة لمجرد أنه فقير ولن يكون هناك مؤسسة تدار كدكتاتورية صغيرة.
أحلم.
أعرف أنني أحلم، ولكن تلك هي تركيبتي التي أنا عليها.في لحظة من الشعور المفرط بالزهو (أحيانا يراودني ذلك) كتبت: لست على قناعة فيما أذا كنت أحيا، ولكني أعرف أني احلم.
(حلم رقم 1.سلسلة من الأفكار، الصور، الإنفعالات، تمر عبر عقل الشخص وهو نائم.2. تصورات غير واقعية أو خادعة.)
في قاموسي الشخصي كنت سأضيف:نقاشات لا نهاية لها مع صديقاتي، توقعات حميمية عن المستقبل، صياغة أفكار حول الحياة الحقيقية التي تنتظرنا هناك.كل ذلك يأتي مع قرارات مؤلمة بشأن المساومة:مالذي سنفعله بعد الجيش؟ستة اشهر، أو عام في سفر للخارج-إلى أمريكا اللاتينية، أو الهند، مثل الكثيرين من الأشخاص، لكي يتخلصوا مما علق في رؤسهم؟أم الدراسة أولا ومن ثم الرحلة الكبيرة بعد ذلك؟نعم ولكن اذا ما صادفنا رجلاً، الرجل المثالي بينما نحن نجلس لإمتحان البكلوريا، فهل سنقول وداعاً للأبد لرحلة الحياة تلك، لحرية الشفاء التي نحلم بها، في مكان ما بعيد، في قارة لا يتواجد فيها ما يذكرنا بالأشياء التي نعرفها؟ومالذي سندرسه؟ العلاقات الدولية؟ التاريخ؟دراسات الإتصال؟لكي نصبح ماذا؟دبلوماسين؟صحفيين؟موظفي علاقات عامة؟ ماهي الحياة التي سنعيشها؟المستقبل يبدو غامضاً، وغير واضح المعالم، أما نحن فنريده أن يكون مختلفاً تماماً عما نعيشه الأن.آه، لو كانت هناك عصاً سحرية لكي تأتي به مدهشاً، وجميلاً، ولكي تجعل كل العالم في غيرة.المستقبل بالنسبة لـ”راحيل”، ولـ”يوليا” ولي، ويا للعجب، هو أشبه بكلمة إنتقام.
تأتيني كل تلك الأفكار وأنا أقود دراجتي نحو “اكسترافارم”.أفكر بأصدقائي الذين هم مختلفون جداً، لكنهم بالنسبة لي على نفس الدرجة من الإهتمام.أفكر بأني أستحق فعلا الإجازة في “إيلات” و”البحر الأحمر” والتي نخطط أن نقوم بها بعد إمتحان البكلوريا.(عندما تكون يداي ملطختان بالسخام الأسود نهاية هذا اليوم، فذلك يعني أني قد حصلت على ما يعادل نصف إيجار ليلة واحدة في مركز إستضافة الشباب).أفكر في أن مدة خدمتنا في الجيش ستكون مثل إنحراف عابر، فقرة إضافية في حياتنا، لاندري ما الذي سيكون فيها.أفكر بأني سأمر بمشاكل كثيرة لكي أتمكن من التفكير، دائماً، كما أفعل الأن، في دوامة كبيرة، لانهائية، أفكر دائماً بالغد، لكي أكون مطمئنة باني لا أفكر بشأن حقيقة أن “جين-ديفيد” ذهب إلى العيش في القدس قبل أسبوع ولم يتصل بي منذ ذلك الحين.
****