صفوة القول
                                                مختارات من اراء وقضايا  
                                            
                                  أساليب التّدخل الإنساني بين العراقوبورما
                                                                                           صلاح النصراوي
نشرت في الحياة 11/10/07// 

تكتسب ثورة الزعفران البورمية أهمية كبيرة بالنسبة إلينا نحن العراقيين، على الاقل من باب المقارنة التاريخية، بين بلدين مرّا بظروف مشابهة، منناحية سيطرة طغمة متشددة على الحكم واضطهادها لشعبها، ومغايرة لجهة الوسائل والاساليب التي اتبعت لإسقاطها، فحين يخرج البورميون إلى الشوارع في انتفاضة عارمة في وجه قوة غاشمة تقبض بيد من حديد على مقدراتهم منذ عقود طويلة، تماما مثلما فعل صدام حسين، فإن السؤال الذي لا بد ان يطرح هو هل سيستطيع الشعب البورمي الأعزل وحده اسقاط هذا النظام، أم أنه سيحتاج إلى الدعم الدولي، وما هو دور هذا الدعم وحدوده؟ لسنا وحدنا كعراقيين من يدرك اليوم النتائج الكارثية التي سببها الغزو الأميركي الذي أسقط صدام، لكن التجربة العراقية ستظل تطرح على ضمير العالم سؤالا آخر: هل يتوجب على الشعوب التي تحتاج لمؤازرة الاسرة الدولية للانعتاق من قهر أنظمتها ان تدفع ثمن تلك المساندة وفق تسعيرة تفرضها شروط الصراعات والمصالح الدولية والاقليمية؟

من الضروري التأكيد على فوارق جوهرية بين التجربتين العراقية والبورمية. فالانتفاضة البورمية المستمرة منذ سنوات هي نتاج نضال حركات المعارضة فيالداخل بقيادة اونغ سان سو تشي، تلك القائدة الوطنية الفذة، التي يعود الى حكمتها وصبرها وعزيمتها صمود الشعب البورمي في وجه تسلط الزمرة العسكرية الحاكمة وابقاء قضيته حية، في الوقت الذي حرم الشعب العراقي من معارضة داخلية قوية ومن تلك القيادة الحكيمة، سواء بسبب ممارسات صدام القمعية التي فاقت كل حدود، او لظروف موضوعية اخرى. اما الفارق الاساسي الآخر فهو العامل الجيوبوليتكي الذي يمثله العراق في سياسات الاقليم، والذي لعب دورا مهما في صوغ تفرد اميركا في تدخلها في العراق لحسابات مصلحتها البحتة، وليس لهدف انساني هو إنقاذ شعب من محنته، وهو ما أخذ يتبين الآن.

وفي ظني ان التاريخ سيشهد ان احد الاسباب الاساسية وراء وصول الوضع العراقي الى ما هو عليه هو افتقاد العراق قيادات سياسية بوزن ومكانة اونغ سان سو تشي، وهي مقارنة صحت قبلها على نلسون مانديلا، الذي اصبح اسطورة تدين له جنوب افريقيا بإخراجها من نفق العنصرية المظلم. واحد اسباب غياب هذه القيادات هو ان نظامي الطغمة العسكرية في بورما والتمييز العنصري (الابارتايد) في جنوب أفريقيا ظلا أقل بشاعة من نظام صدام الذي لم يسمح للمعارضة بالبقاء على قيد الحياة أبدا. غير ان الوضع المتردي في العراق الآن، ورغم طوي صفحة صدام، هو خير دليل على غياب القيادات الحكيمة ورجال الدولة اللامعين بل وحتى الطبقة السياسية الواعية التي بإمكانها ان تدير دفة الامور بسلام وروية. وبغض النظر عن الاسباب التي تقف وراء ذلك، فمن المؤكد ان وجود قيادات من نوع سو كان سيغير مجرى التاريخ في العراق، وهو الامر الآخر الذي يعطي للتجربة البورمية اهميتها مقارنة بالتجربة العراقية.

عادت سو، ابنة الزعيم الوطني البورمي اونغ سان، من المنفى عام 1988 لعيادة والدتها المحتضرة ولكن عودتها تصادفت مع بدء الانتفاضة الشعبية ضد الطغمة العسكرية التي استولت على الحكم منذ 26 عاما فوجدت نفسها وكأن القدر يناديها لتولي قيادة معارضة مفككة في وجه طغيان النظام. لم تهرب سو من النداء ولم تعد الى زوجها وعائلتها في بريطانيا (قارن ذلك بالمعارضة العراقية لصدام)، بل بقيت في بلدها تقود التظاهرات والتجمعات التي أطلقتها الانتفاضة. ولم يكن ذلك المثال الذي ضربته في التضحية واختيار البقاء الى جانب شعبها فقط هو الذي رسّخ زعامتها بشكل سريع، بل الحكمة والرهافة والصبر إلى جانب البراعة السياسية التي ابدتها في قيادة المعارضة وسط ظروف معقدة. في خطاب ألقته وسط مئات الآلاف من انصارها في احد ميادين رانغون يوم 26 آب (اغسطس) 1989 حذّرت سو من مغبة الوقوع في فخ العداء للجيش فميزت بينه كمؤسسة وطنية وبين الجنرالات الذين هيمنوا على البلاد (قارن ذلك ايضا مع تفكيك الجيش العراقي بعد الحرب). تأكيدها الآخر كان على بث قيم الوحدة الوطنية بين الاعراق المختلفة وروح التسامح والانضباط وعدم الانجرار وراء اعمال الثأر الشخصية (قارن كذلك ببث النزعات الطائفية والمحاصصة القومية والطائفية وروح الانتقام التي سادت في عراق ما بعد صدام).

منذ بداية قيادتها لمسيرة المطالبة بالديموقراطية وجهت سو اهتمامها نحو العالم طالبة تضامنه ودعمه لتلك المسيرة، لكنها ظلت تفعل ذلك مناشدة المنظمات الدولية والحقوقية والصحافة للتنديد بجرائم النظام العسكري وفضح انتهاكاته وفرض العزلة الدولية عليه، لكنها أبقت دائما قضية النضال لإسقاط السلطة في الاطار الوطني والسلمي باعتبار أن ذلك هو أولاً مهمة شعب بورما وحده، وثانيا: ضرورة الا ينزلق النضال الى اي شكل من اشكال العنف الذي رفضته بقوة حتى ولو كان رد فعل على عنف النظام ووحشيته. وأدركت سو اهمية التضامن الدولي لدعم مسيرة الديموقراطية من ناحيتين: اولاهما ان المقاطعة والعقوبات التي يفرضها العالم ستزيد من عزلة النظام. وثانيهما ان تلك الاعمال ستمنح البورميين المزيد من الامل حتى في اكثر مراحل الصراع اثارة لليأس والاحباط. وكتبت سو في رسالة وجهتها الى لجنة الامم المتحدة لحقوق الانسان عام 1989 ان الشعب البورمي سيعتمد على شجاعته وصبره وقدرة تحمله في انجاز المهمة، وان كل ما يطلبه من العالم هو دعم قضيته العادلة، وهذا موقفها حتى اللحظة.

والآن مع احتمال وصول الانتفاضة البورمية الى مرحلتها النهائية فإن الانظار تتجه الى الطريقة التي سيتعامل بها العالم مع الازمة هناك. هناك طبعا تعقيدات ترتبط بالعلاقات الدولية وبخاصة بالمصالح الصينية والهندية في منطقة جنوب شرقي اسيا والمشاغبات الروسية المتوقعة في الامم المتحدة وخارجها. كما ان هناك حقيقة جوهرية وهي ان بورما بلد زراعي فقير لا يتمتع بتلك الجاذبية التي شكلها العراق بثرواته النفطية الغنية في دفع الولايات المتحدة لاتخاذ قرارها المنفرد بشن الحرب لتغيير نظام صدام. ومن المؤكد ايضا ان التجربة العراقية المريرة ستفرض ذاتها على النقاش الذي يدور بشأن الخيارات التي على العالم أن يتخذها لمد يد العون إلى شعب بورما في نضاله من أجل الخلاص.
لقد كان أول رد فعل من الرئيس جورج بوشعلى العنف الذي واجهت به السلطة في رانغون المنتفضين انه أمر بفرض حظر على سفر الجنرالات البورميين وعائلاتهم الى الولايات المتحدة، كما ان ردود الافعال الاوروبية لم تزل في مرحلة الكلام الديبلوماسي والاستنكارات، في الوقت الذي يبدي الجاران الكبيران لبورما، الصين والهند، اهتماما اكثر بتدعيم نفوذهما في المنطقة على الاهتمام بمن يحكم بورما وبأية طريقة. اما الامم المتحدة فمن غير المحتمل أن يغير إرسالها ابراهيم غمباري الى رانغون شيئا في ظل انعدام رؤية دولية موحدة بشأن بورما، وهو أمر من الصعب ان يستمر اذا استمرت الانتفاضة واخذت منحى اكثر دموية.
لا نعرف في هذه المرحلة وعلى وجه التحديد الوجهة التي ستسلكها الانتفاضة البورمية وما اذا كنا سنرى في مرحلة ما لافتات ترفع وسط المتظاهرين فيرانغون تنادي بالتدخل الاجنبي لاسقاط المجلس العسكري الحاكم اذا ركب جنرالاته رؤوسهم، ولكن المؤكد ان شعب بورما سيبقى في حاجة الى دعم العالم وتضامنه معه، مما سيثير التساؤلات عن التجربة الجديدة في سياسات التدخل الانساني وتغير الانظمة الشاذة التي ستواجهها الاسرة الدولية قريبا، لكن من المؤكد ان العالم الذي يشاهد الكارثة العراقية سيتريث كثيرا في التدخل المباشر في بورما، وربما سيختار المثال الاندونيسي في التغيير الذي تمكن في النهاية من إطاحة سوهارتو، ولكنه حافظ على اندونيسيا وعلى الامن والاستقرار في جنوب شرقي اسيا. ولعل مقولة الرئيس بوش قبل اسابيع في أحد تبريراته للغزو الأميركي ان صدام قضى على امكانية قيام نلسون مانديلا في العراق ستكون ماثلة امامه وامام العالم. ففي بورما لا تزال اونغ سان سو تشي حية، وكل ما على العالم ان يفعله هو ان يقف معها ومع المقاومة البورمية الشجاعة.
اهمية مؤازرة ثورة الزعفران حتى نجاحها انها ترسل رسالة ودرسا ايضا لكل الشعوب الاخرى التي ما زالت ترسخ تحت نير الانظمة المستبدة. فبورما ليست وحدها من يختبر اذا ما كان لهذه العبارات اي معنى، بل العالم كله موضع اختبار، في ما اذا كان باستطاعته ان يقف مع شعب يتحدى الخوف ليستعيد حريته من دون ان يجبر على دفع ثمن باهظ كالذي دفعه العراقيون.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *