أخلاقيات السياسة وسقوط جدران الخوف
قبل أن ينهمك الفلاسفة الإغريق بالبحث في العلاقة بين السياسة والأخلاق بوقت طويل انشغل البشر عموما بهذه المسألة الجوهرية حتي أن عقائد الحضارات القديمة في مصر وبلاد بابل وآشور والهند والصين تناولتها في إطار الالتزامات السامية التي تربط بين الكائن والمعبود والواجبات المناطة بكل طرف.كان الهدف دائما هو ضبط هذه العلاقة كي لا يجور منطق السياسة ومصادرها علي القانون الأخلاقي وإلا تستلب السلطة حقوق وكرامة ورخاء وسعادة البشر.
اليوم ومع التغيرات الثورية التي أطلقها الربيع العربي يطرح السؤال من جديد علي ضوء التجارب العربية في العقود الماضية التي سادت خلالها أنظمة قمعية واستبدادية فاسدة استباحت كل القوانين والقواعد والمبادئ الأخلاقية والسياسية وأحلت محلها شريعة الغاب وسطوة القوة الغاشمة.والسؤال علي وجه التحديد هو هل ستقع الأنظمة الجديدة في غواية السلطة.
من الطبيعي أن الناس الذين عانوا الأمرين من لا أخلاقية السياسة التي مارستها الأنظمة البائدة وسلوكياتها السيئة ينتظرون من الأنظمة الجديدة ومن رجالاتها ممارسة السياسة وفق أعلي المعايير الأخلاقية كالعدل والصدق والنزاهة والأمانة والإخلاص والوفاء والالتزام بالوعود والصراحة, وغيرها. إن علو سقف توقعاتهم أمر بديهي لأنه مرتبط بفكرة الثورة وأخلاقياتها, من ناحية, وبالتضحيات التي قدموها من اجل جني ثمارها, من ناحية ثانية, وبالخبرات التي اكتسبوها في السياق الجديد لقطع الطريق علي محاولات خداعهم, من ناحية ثالثة
ربما يحاج أن من المبكر الحكم علي الأداء الأخلاقي للأنظمة الجديدة طالما أنها لا تزال في مخاض الفترات الانتقالية وان التغير لم يتحول بعد إلي ثورة, إلا أن علينا أن نتذكر أن هذه هي الفترة بالذات التي تتصارع فيها التيارات المختلفة علي السلطة وعلي مواردها وتتكون إثناءها النخب الجديدة وتصاغ خلالها نظريات الحكم وتوجهاته والتي يستوجب الانتباه خلالها إلي سلوكيات الحكام الجدد ولفت النظر إليها حين تحيد عن الصواب الأخلاقي والسياسي معا.
إن أكثر ما يشد الانتباه في سلوكيات محرومي الأمس الذين تتاح لهم الفرصة في الاستحواذ علي السلطة من خلال الهيمنة علي المواقع الجديدة هو الجموح في استخدامها لمصالحهم النفعية الشخصية والخاصة, علي حد سواء, معيدين بذلك إنتاج السياسات والممارسات التي كانوا هم ضحايا لها علي يد النظام السابق.ولعل من ابرز هذه السلوكيات المريضة هي ما يكتسبه الحكام الجدد من مظاهر السلطة وشططها كالتعالي والإفراط والإنكار والضيق بالنقد, وهي سلوكيات لا تتناقض فقط مع خلفياتهم المتواضعة, بل أيضا مع متطلبات النزاهة والشفافية والبساطة, وغيرها من الفضائل والسياسات الأخلاقية التي تتطلبها حركة الإصلاح والتقدم في المجتمع الجديد.
ولعل ابرز تعبير عن المخاوف من هذه الحالة ورفضها هو شعار مصر ليست عزبة الذي علا دويه منذ ثورة25 يناير والذي يجد صداه لدي التونسيين والليبيين واليمنيين, وقبلهم العراقيون, بان بلادهم ليست ضيعات يرثها الحكام الجدد وحاشيتهم الذين يستغلون السلطة التي وقعت بأيديهم.
هذا السلوك الاستحواذي الذي يعتبر محصلة التغيير مجرد غنيمة يؤدي بالنتيجة الي واحدة من اخطر العلل التي تصيب مرحلة التحول, ألا وهي الاحتكار, احتكار الحقيقة أولا والسلطة ثانيا, وبالتالي التهميش ومن ثم الاقصاء لكل المخالفين, او لمن هم ليسوا علي هوي الحكام الجدد.ان ابشع ما تفعله هذه الممارسات هو انها تفسح المجال للمتعطشين للسلطة للحصول علي المزيد منها مما يعني بالنتيجة استبدال نظام مضطهد بنظام مضطهد جديد.
لقد اشيع منذ زمن طويل وحتي قبل ان يضع ميكافيلي آراءه في السياسة التي اشتهرت بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة ان السياسة قذرة وانها ميدان للخداع والتلاعب في مسعي لدحض الفكرة الافلاطونية عن متلازمة الاخلاق والسياسة التي توفر للانسان المعرفة بالشروط التي تحقق الهدف النهائي له- السعادة.لكن تلك لم تعد افكارامسوغةفي عالم ما بعد الثورات الشعبية, ناهيك عن عالم ما بعد الثورة الالكترونية والمعلوماتية, والتي ما كان ميكافيلي ليتجاسر عندها ليحتقر الشعوب باعتبارها بلا اخلاق, مبررا بذلك لااخلاقية الامير, الذي يجب, حسباستنتاجهالنهائي ان يخاف لا ان يحب.
واذا كان اعظم انجاز حققته الثورات العربية هي اسقاطها جدران الخوف, كما يبدو إلي الآن, فان الجدل الشائع بشأن العلاقة بين الاخلاق والسياسة يبدو محسوما مرة اخري لصالح مبادئ السياسة الاخلاقية ولصالح برنامجها التطبيقي العقد الاجتماعي كما رأه آباء الثورة الفرنسية لوك وهيوم وروسو باعتباره خطة طبيعية للحكم تعد بمقتضاها كل السلطة السياسية أمانة لصالح الناس وضمان ان يعيشوا متمتعين بحقوقهم الطبيعية.
ان معني كل ذلك ان اولئك الذين تولوا السلطة في العهود الجديدة ولم يألفوا بعد حقيقة ان جدار الخوف قد انهار سيرتكبون خطأ فاضحا لو اعتقدوا ان بامكانهم ان يبرروا لانفسهم اي عسف او استغلال او سوء معاملة او تخويف سيرتكبونه تجاه الناس في ظل النظام الجديد بحجة متطلبات الأمن والاستقرار, وغير ذلك مما يثار عادة تبريرا للسياسات اللااخلاقية التييرتكبونها.
ولن يقتصر الامر علي ذلك بل انهم سيدركون ان الحلول للمشكلات التي سيحاولون فرضها علي الناس بالمكر والمناورات والمساومات, او حتي تحت ذرائع الحقوق المكتسبة من صناديق الانتخاب والاستفتاءات, سيكون نصيبها الفشل الذريع لانهم سيجدون امامهم اناسا لم يعد يخشون السلطة وهم علي استعداد دائم ان يرفعوا اصواتهم بالشكوي والاحتجاج.
ولعل الانتفاضة التركية الحالية ضد رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان تقدم دليلا آخر علي ان الشعوب لم تعد ترضي ان تكون مجرد دمي ترقص علي حبال شهوة السلطة او ان تقبل بمحاولات خداعها علي ايدي السياسيين الذين يعتقدون انهم ما داموا وصلوا الي الحكم فان من حقهم ان يحصلوا علي شيك علي بياض.