(3)
الفساد انتقام امريكا من العراق
منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ظل السؤال يتردد على الألسن عن الدوافع الحقيقية للغزو بعيدا عن تلك الأكاذيب بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وعلاقة نظام “صدام حسين” بالارهاب الدولي، وكذلك الكلام الأجوف عن تحرير العراق وشعبه من استبداد الدكتاتور وقمعه.لا يزال من غير الممكن توفير اجابات شافية ووافية عن الأسباب والدوافع الحقيقية وراء قرار ادارة الرئيس “جورج بوش” بالحرب على العراق، الا بالعودة الى الأرشيف وفتح ملفات الغزو للتعرف على تفاصيل عملية اتخاذ قرار الحرب ودواخلها.تبقى تلك مهمة منوطة بالمؤرخين الذين سينتظرون بدورهم طويلا لحل الألغاز التي تقف وراء الاحتلال الأمريكي للعراق وتقديم صورة مفصلة عن تلك الحرب اللعينة وما جرى في كواليس التحضير لها.لكن من وجهة نظر الحاضر تبقى الاجابة قائمة في شواهد الواقع الذي عليه العراق الآن والذي هو ليس الا خرابة كبيرة تقوم على أنقاض وطن ودولة وكيان ومجتمع بشري وركام من المعاناة الانسانية والآلالم، اضافة الى هواجس ومخاوف وقلق يحيط بمستقبل غامض.
ما يستتبع هذا السؤال تساؤل آخر وهو:هل كانت هذه النتيجة، اي تدمير العراق كدولة وكيان، عملية مقصودة ومبيتة ومنظمة، ام انها كانت ناتجا عرضيا، او ثانويا، جاء نتيجة الأخطاء القاتلة العديدة التي ارتكبت، سواء بطريقة تنفيذ الغزو، او في اسلوب ادارة الاحتلال؟هنا ايضا تقف كل شواهد الحاضر لتؤكد بما يقطع اي شك باليقين بان تلك الحرب لم تكن الا جريمة تدمير شامل، ان لم تكن ابادة جماعية لوطن، مع سبق الاصرار والترصد.جريمة مكتملة الأركان، ارتكبها مخططون ومنفذون ومبررون انضم اليهم شركاء أصبحوا الآن معروفين، كل بالأسم وبالدور الذي قام به في تنفيذ الجريمة وفي محاولة اخفاء معالمها وبالثمن الذي قبضه لذلك.
هناك الكثير من الوقائع والنتائج المتحققة التي تثبت وقوع تلك الجريمة، الا ان الفساد بكل انواعه يقف كاحد أبرز تلك الأدلة الدامغة لان نتائجه وتبعاته هي الأكثر وضوحا امام العيان كما انها ستبقى تعيش مع العراقيين سنوات، بل عقودا، طويلة قادمة وستترك أثارها على أجيال عديدة منهم.ان الشاهد على ذلك يتجلى بنظام المحاسيب (cronyism) والاتباع الذي اقامه الاحتلال وتركه لزمر من الخانعين والمتعاونيين معه والذين لا يزالون يقبضون على ناصية الحكم ويقيمون نظاما تنعدم فيه الفضائل الاخلاقية ومغرق بالفساد الذي يغذي بدوره حالة الفوضى والعنف المستشرية بالبلاد.
ان وراء مفهوم “دولة علي بابا” الذي روجه الاحتلال منذ أول لحظة له على الأرض العراقية تقوم صناعة أمريكية متكاملة سعت لاقامة هياكل سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة بعد الاحتلال من خلال اعادة توزيع شامل للدخل والملكية والادارة والانتاج عبر خلق اوليغاركية تابعة تركت لها المجال لكي تعمل على غرس جذورها عميقا في التربة العراقية الى فترة طويلة.ونظرة متفحصة للواقع العراقي ترينا كيف ان نظام المحاصصة والمحسوبية والشللية والزواج بين السياسة والمال الذي اقامه الاحتلال هو الذي ظل يهيمن حتى يومنا هذا على اقتصاد البلد بإعتباره المدخل للهيمنة السياسية والاجتماعية ابتداءً من المصادر الرئيسية للثروة الوطنية، وإنتهاءً بالعقود الحكومية والمقاولات والتجارة والبنوك والاستثمار مع ارتباط مركينتلي كامل بالمنظومة الاقليمية والدولية.(1)
في عهد الحكومة الثانية لـ”نوري المالكي” ظهرت احدى اكبر فضائح الفساد، وهي حكاية “نمير العقابي” او ما اصبح يعرف بـ”حوت المنطقة الخضراء”، والذي اشتهر بسبب علاقته المباشرة بالمالكي نفسه وما كشف عنه ايضا من ارتباطات عنكبوتية مع مؤسسات الفساد في الداخل والخارج.كان عالم المال والسياسة والمخابرات في دول المنطقة واوربا وامريكا يعلم بحكاية العقابي ويتابعها بتفاصيلها غير المسلية، في حين كان المسؤولون العراقيون يمارسون عاداتهم بالخداع والتضليل للتستر عليه حتى دب الخلاف داخل “مغارة علي بابا” وانكشف المستور بتبجح المالكي بدور ابنه احمد في عملية القاء القبض المزعومة على العقابي.
في 18 آيار (مايو) 2011 كتبت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا صحفيا عن حركة الاعمار في العراق كجزء من عمليات غسل سمعة الاحتلال قبيل الإنسحاب كان احد شخصياته الرئيسية “نمير العقابي” الذي وصفته بانه واحد من اغنى اغنياء العراق.اما كيف كون تلك الثورة فالجريدة الامريكية العريقة لا تترد بالقول انه الاحتلال الذي جعل منه “رجلا غنيا جدا ..جدا.”في مستهل التقرير تنقل الصحيفة عن العقابي قوله للكاتب “يا صديقي، ان العراق غني جدا جدا، وبكر” وهي عبارت دالة تفضح النهم للمال وشهوة الإغتصاب، وهي سمة كل من شارك في مشروع دولة النهب والسلب والفرهود تلك.ما يكشفه التقرير ان العقابي والعشرات من امثاله ممن جاؤا مع جيش الاحتلال عملوا بالقرب من وبالتنسيق مع مسؤولي البنتاغون الذين تولوا مسؤولية اعادة البناء في العراق بعد الغزو ومن خلال ما سمي “قوة المهمات للأعمال والاستقرار” التي عملت تحت ادارة “بول برنكلي” نائب وكيل وزارة الدفاع.ما تكشفه الصحيفة ايضا ان المسؤول الامريكي هذا اسس ما اصبح يدعى بـ”جماعة برنكلي” وهي مجموعة رجال الاعمال العراقيين الذين كان توكل اليهم المقاولات والذين ظل العديد منهم يهيمنون على هذا القطاع لسنين طويلة مع شركائهم العراقيين الجدد بعد مغادرة الامريكان.(2)
من اين أتى اول مليون للعقابي؟في 11 تشرين الثاني (اكتوبر) 2007 كتب “نوريس جونز” في النشرة الداخلية للقوات المسلحة الامريكية تقريرا يتحدث فيه ايضا عن ما سمي بجهود إعمار العراق، وخاصة تلك التي يقوم بها “فيلق المهندسين” في الجيش الامريكي للإشراف على 541 مشروعا بقيمة ملياري دولار وهي مشاريع اغلبها ترميم للمستشفيات والمدارس ومحطات المياه والصرف الصحفي وغيرها من اعمال الصيانة الصغيرة.كان الفيلق قد انجز حسب ذلك التقرير 3700 مشروعا مماثلا بقيمة 5,8 مليار دولار كان نصيب شركة العقابي التي اطلق عليها “شركة العراق المعاصر للمقاولات” (الموكو) منها 80 مشروعا، وكان مبلغ مناقصة مشروع واحد منها فقط، وهو مشروع معالجة مياه الرصافة 50 مليون دولار.هكذا بدأت رحلة جمع الملايين لشاب عراقي عاطل غادر بلده وعمره سبع سنوات وجاب العالم في رحلة البحث عما يسد به رمقه، ولكن لم يحالفه حظه الا بعد عودته الى العراق مع الاحتلال والعمل مع المحتلين لينشأ امبراطورية مقاولات واعمال حرة.
هناك مثال آخر شهير عن ابطال منظومة الفساد التي اقامها الاحتلال مبكرا والتي ارتبطت بشبكة دولية من الاجهزة الاستخباراتية واللوبيات والمافيات التي وفرت لها الفرصة لولوج مغارة “علي بابا” مثلما وفرت لها غطاء الحماية التي مكنها من الافلات من قبضة الملاحقة والمحاسبة.انه “زياد قطان” الذي جاء به الاحتلال الامريكي من سمسار خردة وبائع زهور في العاصمة البولونية وارشو لكي يجعل منه امينا عاما لوزارة الدفاع، ومشرفا على بناء الجيش الجديد ولكنه انتهى شريكا في واحدة من اكبر صفقات الفساد في العالم.
يروي “زياد قطان” الذي اشتهر في حكاية الفساد الخيالية تلك، وهي صفقة الأسلحة البولونية الشهيرة والتي كان احد ابطالها الآخرين وزير الدفاع “حازم الشعلان”، في مقابلة مع جريدة “لوس انجلز تايمز” يوم 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005 انه قبل عمله كرئيس قسم المشتريات في وزارة الدفاع كان يعمل في بيع المياه والزهور والأحذية والسيارات في بولونيا التي عاش فيها هاربا في عهد صدام.يقول قطان “اما الأسلحة فلا… لم اكن اعرف عنها شيئا” قبل ان يأتي به الغزو الى العراق المحتل الجديد.ومع ذلك فان هذا الشخص الذي عمل مع المحتلين منذ الأيام الاولى ككبير مستشارين في وزارة الدفاع، ومسؤول المشتريات فيها دون اي خبرة عسكرية، او تقنية، او تجارية، فقد وقع على 89 عقدا لشراء الأسلحة بكلفة قدرها 1.3 مليار دولارا امريكيا لاعادة بناء الجيش الذي دمروه الاحتلال.مالذي تقوله الصحيفة الامريكية عن تلك الصفقة؟انها جرت بسرية تامة، وبدون مناقصة علنية، وان الدولارات كانت تحول نقدا على شكل رزم عبر وسطاء هم اصدقاء لقطان يقبضون عمولة سمسرة عن ذلك وان بعض قطع الاسلحة التي تم استيرادها كانت مجرد خردة حديد باهظة الثمن، والأدهى من كل ذلك ان بعض المعدات المستوردة لم تصل الى العراق اساسا.(3)
قصة قطان كما ترويها الصحيفة لجمهورها الامريكي منذ عودته الى بغداد بعد خمسة وعشرين عاما من الغربة قبل الغزو بيومين وتعينه في ذلك المنصب الكبير بدت هي الاخرى تصلح كحكاية مسلية للامريكيين اشبه بحكايات “الف ليلة وليلة” و”علي بابا والأربعين حرامي”، ولكنها بالنسبة للعراقيين كانت قصة مأساوية مرعبة من مسلسل الفساد والتخريب المتعمد للعراق، وتدمير فرص نهوظه من رماد الحروب ستبقى ملفاتها مخبأة في اقبية الإجهزة السرية التي حاكت ذلك المشروع الجهنمي والذي اولد هذه الدولة المسخ.
لم يظهر العقابي ولا قطان بعد كل تلك السنين للقيام باية محاولة للدفاع عن اسميهما وتفنيد التهم الموجهة لهما كما لم تتمكن اية سلطة عراقية او اجنبية من القاء القبض عليهما او استجوابهما.
من ناحيته، يقدم شاهد من اهلها، وهو “علي عبد الامير علاوي” وزير المالية ووزير الدفاع في تلك الفترات تفاصيل مروعة عن ما يدعوه بملحمة السرقات الكبرى التي ابطالها حسب وصفه “وزراء انتهى امرهم بالهرب من وجه العدالة متهمين بالنصب والإختلاس والسرقة” او “مغامرين لايردعهم رادع” او “افراد كانوا يعملون في محلات بيع البيتزا” في اوربا وامريكيا قبل ان تحملهم قوات الاحتلال وتنصبهم على كراسي الحكم في بغداد.آخرون ممن عملوا في زواريب ادارة الإحتلال من عراقيين وغيرهم تحدثوا في شهادات تفصيلية مؤلمة عما كان يدور حول تلك الصفقات التي كانت تجري في مكاتب سلطة الاحتلال والسفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء ومعسكرات الجيش والتي لم تجر بشأنها حتى الآن اي تحقيقات، او يحال اصحابها الى القضاء.(4)
ان العديد من قادة المعارضة لصدام الذين تبنتهم الولايات المتحدة كانوا معروفين بفسادهم وانغماسهم بعمليات اجرامية مثل التهريب وتجارة السلاح وسرقة الأموال، بعضها من معونات الدول، او من اموال خيرية او من نهب أموال السفارات والوفود العراقية قبل انشقاقهم، كما ان بعضهم ممن صدرت بحقهم أحكام قضائية مشهورة كـ”أحمد الجلبي”.ان مجرد وجود هؤلاء في صدارة المشهد بعد الاحتلال كان يمثل صورة وشاهدا على ما ستؤل اليه تلك الدولة التي ستقوم على انقاض دكتاتورية صدام.
لم يكن بالامكان لمثل هذه النماذج القميئة ان تظهر في حياة العراقيين لولا مليارات الدولارات التي انفقتها سلطة الإحتلال على تلك المشاريع التافهة، او الوهمية، والتي كانت المعبر الذي وفد من خلاله الفساد.لقد شكلت تلك الممارسات حجر الأساس في منظومة الفساد التي اقيمت في “دولة علي بابا” لانها جعلت من الفساد ثقافة ومنهجا للحكم، وليس مجرد أعراض ثانوية للغزو.كانت السياسة الكولونيالية التقليدية تلجأ الى المؤامرات والدسائس والإنقلابات وتزوير الإنتخابات في البلدان التي احتلتها بغية خلق طبقة سياسية خانعة وذليلة، الا ان الولايات المتحدة لجأت في حالة احتلالها للعراق الى خلق منظومة سياسية اجتماعية تفتقر للانتماء وللحس الوطني والانساني، وظيفتها الأساس هي التخريب المادي والنفسي، لان مشروعها الامبراطوري في العراق كان مشروعا تخريبيا بغض النظر عن تلك الاساطير عن الديمقراطية التي غزلتها آلة الاحتلال الاعلامية، وخلافا للمبادئ التي تتبجح بها امريكا عن سعيها لنشر الحرية والعدالة في العالم.
تعمل المؤسسات الأمريكية في الخارج وفق ما يدعى بـ”قانون ممارسات الفساد الخارجي” والذي يعتبره الامريكيون الجوهرة في تاج جهود مكافحة الرشاوي في قطاعات التجارة والإستثمارات والاعمال الدولية والنموذج الدولي الذي يوفر للشركات الامريكية وللدول الاجنبية الوسيلة الأمثل لمحاربة الفساد، وخاصة في مكافحة دفع وقبض الرشاوي.اما في العراق فقد جرى كل ذلك الفساد تحت بصر القيادة الامريكية السياسية والعسكرية وعلى يد المسؤولين الأمريكيين من دبلوماسيين وموظفين وضباط، بل وحتى المتعاقدين، في أبشع صورة للنفاق والخداع يمارسها محتل اجنبي.ولم يكن ذلك بغريب فالحرب على العراق كانت اساسا بلا مبادئ ، وبلا شرعية، وقامت على الكذب والتدليس وانتهاكا للقانون الدولي وشرائع الأمم المتحدة، مما يجعل الجدل والكلام بشأن الجانبين القانوني والأخلاقي ضربا من ضروب الثرثرة والعبث، ما لم يتم التأكيد من البداية بان مشروع الاحتلال كان اساسا غزوا كولنياليا مدمرا وفقا للحقائق الصارخة التي لا تزال ماثلة امامنا بعد كل هذه السنوات ومن ثم اجبار امريكا على الإقرار بانها مسؤولة عن مأساة القرن في تخريب بلد بالكامل وتدمير فرص شعبه للنهوض من رماد الحروب والصراعات.
هناك قصص تزكم الانوف سمعتها عن عاملين مكاتب الاحتلال عن ممارسات سلطة الائتلاف الموقتة والجيش الامريكي والسفارة الامريكية في بغداد، وخاصة في الفترة المبكرة للاحتلال عن تجييش المؤيدين والمدافعين عن الاحتلال من بين الزعماء المحليين وشيوخ العشائر، وافراد من المجتمع المدني، وغيرهم، من خلال المقاولات والعقود التي اغدقت عليهم بملايين الدولارات والتي كانت أغلبها وهمية، او شكلية، لمجرد شراء ولائهم وتعاونهم مع الاحتلال وعملهم على خلق بيئة اجتماعية مؤاتية لعمل القوات الامريكية والحكومة التي نصبتها.ووفقا لتلك الشهادات كان الضباط والموظفون والدبلوماسيون الذي يشرفون على منح العقود يتعمدون زيادة مبالغ العقود زيادات خيالية لأهداف لا تخف على احد، من بينها بناء علاقات شراكة مع المنتفعين من الطبقة الجديدة التي انشؤها والتكسب شخصيا منها، اما حينئذ، او في في فترة لاحقة.ان العديد من وجوه المرحلة من الدبوماسيين والقادة العسكريين والموظفين الأمريكان اصبحوا بعد تركهم الخدمة شركاء في الأعمال التجارية والاستثمارية في العراق، او موظفين، او خبراء لدى الشركات التي حصلت على نصيب من كعكعة اموال العراق.(5)
ان اشهر من وردت اسماؤهم من المسؤولين الامريكان في قضايا الفساد المرتبطة بالغزو هما “زلماي خليلزاد” الذي كان المسؤول الأول في تنسيق جهود الغزو مع قوى المعارضة و”غاي غارنر”، الجنرال الذي عين اول حاكم عسكري بعد الإحتلال.كلا المسؤولين اصبحا بعد ذلك من المساهمين في شركات النفط العاملة في كردستان، وفي اعمال تجارية اخرى، في حين ظلا يعملان على الترويج لقضايا تتعلق بالعراق لدى اللوبيات الأمريكية لسنوات طويلة بعد الغزو.غير ان هناك العشرات من المسؤولين الأمريكيين من مستويات ادنى ممن شارك في عمليات الفساد والإفساد بعضهم تم الكشف عن قضاياهم في حين فلت آخرون من العقاب.وتلخص قصة “روبرت ستين”، وهو احد المسؤولين عن “برنامج اعادة الاعمار” الامريكي الذي قدم للمحاكمة عام 2006 كيف سرق هؤلاء مئات الآلاف من الدولارات اثناء عملهم في العراق من خلال مقاولات وهمية بالتعاون مع عراقيين ومن ثم تحويل تلك الأموال الى حسابات مصرفية وبيوت وسيارات مرفهة وساعات ثمينة ومبالغ سائلة.لقد كان ستين مسؤولا عن صرف حوالي 80 مليون دولار على مشاريع لاعادة الإعمار جنوب العراق بعد الاحتلال الا انه من خلال احالة المشاريع الى مقاولين متعاونين ومن خلال الرشاوي تمكن من شطف الملايين وافق على اعادة نحو 3.6 مليون دولارا منها كتسوية قانونية لقضيته.(6)
بالتاكيد هناك أسباب عديدة تقف وراء الاصرار الأمريكي على ترويج الفساد في العراق الذي احتلوه لعل من بينها ايضا اللامبالاة والغطرسة التي اظهرها المسؤولون والموظفون الأمريكان بمختلف مستوياتهم تجاه مشروع إعادة بناء الدولة العراقية الجديدة.هذه ممارسات عرفت بها امريكا في مناطق اخرى مارست احتلالها او حروبها فيها حيث يشعل الجنود الامريكان الحرائق في القرى والبيوت ويبيدونها كي ينشروا في تلك البلدان الديمقراطية كما ستدعي حكومتهم بعد ذلك.في التجربة العراقية في نشر الفساد بدا ن هناك سببا آخر وهو النظرة الإستعلائية والثأرية الى الشعب العراقي حيث كان الفساد مبرمجا من خلال تخريب الذمم المتعمد مما يدل على الرغبة في الانتقام من العراقيين بعد ان ترسخت لدى مخططي الاحتلال القناعة ان هناك درجة عالية من العداء لامريكا في العراق والتي هي ارث عقود طويلة من نضال الحركة الوطنية ووعي العراقيين بان أمريكا لم تأت الى بلادهم لتحريرهم من صدام، او بهدف بناء الديمقراطية، او اي من شعارات التغير والإصلاح التي كانت قد رفعتها في منطقة الشرق الأوسط انذاك.لقد اختبر هؤلاء المخططين ذلك عمليا حين شاهدوا العراقيين وهو يأنفون عن استقبالهم بالورود وحين بدأت المقاومة للاحتلال سريعا مما استوجب رد الفعل الثاري ذلك الذي جعل العراق على ما هو عليه الآن، نموذجا منحطا للفساد والخراب الاقتصادي والتردي السياسي.
ولعل افضل تلخيص لهذا الإستنتاج عن الأداء الأمريكي في العراق، وهو في الحقيقة اداء نمطي في تجارب الكاوبوي الأمريكي المعهودة في التدخلات في البلدان الاخرى، هو ما جاء به “بيتر بيكر” الصحفي في “نيويورك تايمز” في كتابه “ايام النار، بوش وتشيني في البيت الابيض” نقلا عن مسؤول امريكي بارز في ادارة الرئيس بوش بقوله “لقد ذهبنا للعراق ونحن نبحث عن مؤخرة شخص ما لنركلها”.اما تعليق بيكر على ذلك فهو:” والحقيقة انهم لم يركلوا شخصا بحد ذاته، بل ركلوا بلدا باكمله.(7)
وكما ذكرت سابقا فان لجوء الجنود الامريكان الى النداء على العراقيين اثناء دخولهم بغداد يوم 9 نيسان (ابريل) 2003 بعبارات “هيا، علي بابا” في تحريضهم على اقتحام المنشئات والمعسكرات والدوائر والمصانع والبنوك والمستشفيات والمختبرات وغيرها من مؤسسات الدولة التي كان يجري نهبها وحثهم على الاجهاز على ما تبقى فيها من ممتلكات، هو تعبير واف يلخص تلك العقلية المتجذرة في المخيال الامريكي وفي الذهنية الإستشراقية، وهي احدى عناصر المشروع الامريكي لاحتلال العراق الذي لم يخف اهدافه، ومنها استباحته وترسيخ مفهوم استحلال ثرواته.
لقد اثبتت المئات من الكتب والمقالات والدراسات ان ماقام به الامريكان في العراق من تشجيع على الفساد لم يكن عشوائيا، او ناتجا عرضيا، بل جاء وفق مخطط مدروس ولدوافع سياسية واقتصادية تتماشى مع العقلية والاهداف الاستعمارية.وقدمت هذه الدراسات الأدلة والشواهد على تلك الخطة التي استهدفت تدمير البنى الاقتصادية والتحتية والثقافية والآثار الحضارية لبلد عمره آلاف السنين.فمنذ اليوم الاول اصدر الجنرال “تومي فرانكس” قائد الحملة العسكرية امرا لجنوده بعدم التصدي لأية محاولة لسرقة ونهب الأموال العامة من قبل العراقيين وهو الامر الذي ظل قائما لعدة ايام قبل تعديله.
هناك نظريات عديدة ظهرت بشأن دوافع التشجيع الامريكي للفرهود في العراق جاء على رأسها نهب القطاعات الإقتصادية المملوكة للدولة بغية تدمير هياكلها واحلال بنى جديدة مكانها يتولى انشاؤها القطاع الخاص، وبواسطة الشركات الأمريكية المعولمة.فالفكر الرأسمالي الأمريكي الذي يقوم على مبدا لبرالية السوق المتكامل مع شبكات العولمة يرتبط بصناعة جماعة محلية مدمجة حتى ولو كان نشؤها وعملها خارج اطار القوانين والمبادئ الاخلاقية.ما يعنيه ذلك هو تجشيع ظهور طبقة سياسية واقتصادية جديدة في العراق تثرى من عمليات نهب المال العام والثروة الوطنية وتعمل بمثابة كومبرادور مرتبط بالمصالح الامريكية والغربية ومتحالف معها سياسيا.ومهما تكن الدوافع فان بالامكان القول ان عمليات النهب التي شجعتها وحمتها الولايات المتحدة بعد احتلالها للعراق هي التي صاغت بالنهاية صورة العراق الجديد كمرتع مثالي للفساد وادخلته في نفق مظلم، سيظل قابعا فيه عقودا طويلة.(8)
هوامش ومراجع ومصادر الفصل الثالث
1-انظر:”نتائج الحرب والإحتلال الأمريكي للعراق، موقع منتدى السياسات العالمبة، (بالانكليزي) ، 9/5/2013
https://www.globalpolicy.org/humanitarian-issues-in-
iraq/consequences-of-the-war-and-occupation-of-iraq.htm
2-انظر:”الاموال الساخنة لراعي البقر (كاوبوي) بغداد، نيويورك تايمز 18/5/2011
http://www.nytimes.com/2011/05/22/magazine/the-hot-money-cowboys-of-iraq.html
3-انظر:”قصة زياد قطان في كتاب “القبيلة الأقوى،الحرب، السياسة، نهاية اللعبة في العراق”،بينغ ويست (بالانكليزية)
4-انظر:”احتلال العراق، ربح الحرب وخسارة السلام”، عبد الامير علاوي، ترجمة عطا عبد الوهاب، المؤسسة العربية للدرسات والنشر، بيروت 2009
5-انظر:”حسنا سيد بريمر اين ذهبت كل تلك الاموال؟”، الغاردين البريطانية 7/7/2005
https://www.theguardian.com/world/2005/jul/07/iraq.features11
6-انظر:”السفير الامريكي السابق في العراق زلماي خليل زاد متهم بغسل اموال”، موقع غلوبل رسيرش،10/9/2014
انظر كذلك:”الجنرال المتقاعد غارنر:العراق الذي نعرفه لم يعد موجودا”، الغاردين،15/8/2014
https://www.theguardian.com/world/2014/aug/15/jay-garner-occupation-iraq-no-longer-exists
انظر ايضا:”مسؤول امريكي سابق يقر بالفساد في العراق”، (بالانكليزية) موقع ان بي سي نيوز،2/2/2006
7-انظر:”ايام النار بوش وتشيني في البيت الابيض”، بيتر بيكر، (بالانكليزية)، دار نشر راندوم هاوس، 2013
8-انظر:”كيف ولماذا شجعت الولايات المتحدة نهب العراق، موقع الاشتراكية الدولية، (بالانكليزية) 15/4/2003
http://www.wsws.org/en/articles/2003/04/iraq-a15.html