دولة علي بابا

 

 

                         دولة علي بابا

 

  في تشريح سلطة الفساد والمحاصصة في العراق

 

 

                    صلاح النصراوي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

“متى كان ذكر المهتوك حراما،

والتشنيع على الفاسق منكرا،

والدلالة على النفاق خطلا،

 وتحذير الناس من الفاحش المتفحش جهلا؟

…والله تعالى يقول (لا يحب الله الجهر بالسؤ من القول الا من ظلم).

 

 

 

 

 

                                                          ابو حيان التوحيدي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                                             تمهيد

 

هذا الكتاب هو جزء آخر من سلسلة الكتب التي اصدرتها منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 والتي وثقت واستعرضت فيها جوانب متعددة من اوجه الإحتلال والمآلات الكارثية التي انتهى اليه، والتي ادخلت العراق في نهاية الأمر في نفق مظلم لا قرار له، ولا بصيص من نور يبدو في آخره، كما وضعت العراقيين على درب العذابات والآلام الطويل الذي لا يزالون يحدون فيه دون أي أمل في نهاية قريبة له.واذا كانت الكتب الاخرى قد تناولت متابعاتي وملاحظاتي وتقديراتي الشخصية منذ بدء الإستعداد للغزو الى ما انتهى اليه العراق من بلد يقف على حافة الهاوية، فان “دولة علي بابا، في تشريح سلطة الفساد والمحاصصة في العراق”، كما يوحي عنوانه خصصته لتوثيق ودراسة وتحليل الحجم الفعلي للفساد، تلك الآفة السرطانية التي ظلت هي التعبير الأبرز لحصاد تلك التجربة الأليمة، وعصارة آثارها ونتائجها المرة التي سيظل العراقيون يتجرعونها سنينا، وربما عقودا، اخرى قادمة.

ومن خلال تشريح سلطة الفساد يسعى الكتاب الى تفكيك عدة مسلمات على رأسها مسلمة أساسية راجت منذ الغزو وهي ان العراق اصبح دولة شيعية، او حتى دولة يهيمن عليها الشيعة، بسبب ما احدثه سقوط النظام الذي كان يقوده السنة العرب منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة بداية القرن الماضي من تمكين للشيعة وصعودهم على المسرح السياسي في العراق وفي المنطقة.يأتي هذا الكتاب في إطار جهد لطرح منهج وأفق جديدين لتاريخ الفترة التي اعقبت الغزو من خلال نقض هذه المسلمة واثبات ان الأمر لم يكن سوى اعتلاء جماعات الإسلام السياسي الشيعي في العراق دست الحكم وإنحدارها، مثلها مثل اية سلطة غاشمة اخرى، الى مستنقع الفساد وفشلها باقامة دولة العدالة الناجزة التي طالما انتظرها الشيعة.

ان الهدف من رواية تراجيديا الفساد الكبرى في عراق ما بعد الإحتلال هو ليس فقط لنقض الرواية التي تم الترويج لها عن بناء عراق ديمقراطي تعددي توافقي على انقاض نظام صدام حسين الدكتاتوري، وانما ايضا هز السردية التي روجت لها جماعات الإسلام السياسي الشيعية التي استولت على السلطة بعده بانها جاءت لتنهي مظلومية الشيعة المستمرة من بزوغ شمس الدولة الجديدة وان تقيم بدلاً عنه نظاما يستند الى تلك المبادئ السامية التي رسختها التجربة العلوية ومنهح آل البيت وعلى رأسها العدالة الإجتماعية.

في نهاية عام 2017، اي بعد ما يقارب من خمسة عشر عاما على الغزو اكتملت صورة العراق الجديد الذي بشر به المحتلون، بلد تعصف به رياح السموم التي تبغي اجتثاثه من جذوره، دولة مهيضة الجناح، مفككة، ومجتمع خائر القوى، كسير الروح، تفتك به الإنقسامات العرقية والطائفية.لم يصل العراق الى تلك الحالة فقط بسبب سياسات الإحتلال التدميرية والترتيبات الحمقاء التي وضعها لبناء الدولة الجديدة، او بسبب المؤامرات والصراعات التي ادارتها دول الجوار على أرضه، وانما ايضا بسبب انعدام المشروع الوطني الذي يستهدف بناء دولة كفوءة وعادلة تحل مكان دولة المشروع الإستعماري البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى وأنظمة الإنحطاط والقهر والطغيان التي انتجته.

كانت الحرب على تنظيم داعش الإرهابي التي شنها تحالف القوات الأمنية الحكومية مع الجماعات المسلحة التي نظمت في إطار الحشد الشعبي والتي بدأت عام صيف 2014 قد استنزفت العراق حيث كلفته نحو مائة مليار دولار حسب اعتراف رئيس الوزراء حيدر العبادي، اي ما يعادل موارد ميزانية الدولة لنحو عامين، وهي نفس الفترة التي استغرقهما القتال، في حين انها احالت معظم المدن السنية التي جرت فيها المعارك الى أطلال من أحياء سكنية، وبنى تحتية مهدمة، في الوقت الذي بقي الكثير من سكان تلك المدن نازحين في الخيام او مشردين داخل وخارج العراق.بطبيعة الحال ان الثمن الذي دفعه العراقيون من شهداء وجرحى ومن تضحيات باهظة كان اكبر بكثير من التكلفة المادية للحرب والتي اتضح في كل صفحة من صفحاتها انه كان يمكن تجنبها لولا انماط الفساد السياسي والإدراي والمالي التي ضربت بمنظومة الحكم، ومن بينها الأجهزة الأمنية، والتي سمحت لتنظيم داعش الإرهابي ان يتمكن من اجتياح نصف العراق وان يعلن دولة الخلافة الكاريكاتورية على ارضه.ربما كانت الحرب تلك قد قضت على الخلافة المزعومة، لكنها بالتأكيد لم تقض على جذور الغضب والرفض لدى سنة العراق من مشاعر الإحباط والإقصاء والتهميش التي يشعرون بها منذ سقوط الدولة التي هيمنوا عليها نحو ثمانين عاما.

من ناحية ثانية، كانت الضربة القاصمة التي وجهت لمشروع الإستقلال الكردي، بعد اجبار قيادة إقليم كردستان على التخلي عن نتائج الإستفتاء بشأن الإنفصال، قد اعادت القضية الكردية في العراق الى المربع رقم واحد.وعلى الرغم مما بدا للوهلة الاولى انتصارا للدولة المركزية على الميول الإنفصالية التي اظهرتها القيادات الكردية، الا انه سرعان ما اتضح ان المحاولات التي جرت بعد ذلك لتحجيم الفدرالية الكردية وتقليص مكاسبها المتحققة قد اضافت المزيد من الملح الى جرح الكبرياء الكردي الذي انفتح مع انهيار حلم الإستقلال.ومثلما كان الامر مع صعود داعش فان أزمة الإستفتاء على إستقلال كردستان لم تجر بمعزل عن الفساد الذي ضرب الدولة العراقية برمتها وبضمنها الإقليم الكردي.لقد تجسد المشروع الكردي منذ بداية تاسيس دولة ما بعد الإحتلال الأمريكي بظاهرة “ريع الازمات”، وهي حالة الإعتياش على الموارد الطبيعية (النفط والغاز) في مناطق النزاعات والتي تستهدف فيها الأطراف المتصارعة الحصول والسيطرة على اكبر قدر ممكن من الموارد.واذا كان هناك من دروس للأكراد انفسهم عن اخفاق مشروع الإستقلال والهزيمة والذل اللذان شعروا به، فان فشل مشروع الإستقلال الكردي كان سيعني من دون حل جذري للأزمة مع المركز العودة من جديد الى حلبة الصراع على الحصص في الموارد الذي تأسس على الفساد ونهب موارد وأموال الدولة، مما يعني استمرار تلك الدوامة اللعينة من الصراع التاريخي الكردي العربي والصراعات الإثنية الاخرى التي دخلها العراق منذ عام 2003.

ان محاولة القيادات والنخب الشيعية الحاكمة تجيير هاتين النتيجتين، اي هزيمة دولة الخلافة التي اعلنتها داعش وتبدد الحلم الكردي بالإستقلال، لصالحها بإعتبارهما انتصارين للحكومة التي تقودها الجماعات الشيعية كانت في الواقع تعبيرا عن قصر نظر شديد واستباق مبكر للأحداث، كما انها عكست العادة التي دأبت عليها هذه الجماعات في الخداع والتبجح والتي تؤكد بدورها المأزق الذي تعيشه الدولة بسبب عجز قيادتها وعدم كفائتها وفسادها، وهي الأسباب التي تقف وراء كل الأزمات الاخرى.ورغم ما تشي به من أغراض سياسية انتخابية فقد كان تأكيد رئيس الوزراء حيدر العبادي ان المعركة القادمة التي سيشنها بعد داعش وخطر الإنفصال الكري ستكون ضد الفساد هو اعتراف دامغ على ان الخراب الذي انتجته ممارسات الفساد لحكومته والحكومات السابقة هي التؤم الشرطي لظهور كل الأزمات التي عانى منها العراق.

في الصفحات التالية سأتناول كل هذه القضايا من خلال تجربة الحكم في “دولة علي بابا” منذ نشوئها بعد الغزو الأمريكي عام 2003، والتي اسس لها من خلال العملية السياسية التي اشرف الإحتلال على اطلاقها، مستعرضاً من خلال مقدمة نظرية الجوانب المتعلقة بالمظلومية الشيعية التي استندت اليها جماعات الإسلام السياسي الشيعي التي اختطفت الدولة ثم تأسيسها لدولة الفساد الجديدة، بدلا عن دولة الحق والعدل العلوي التي كانوا يدعون الإنتساب اليها، وبعد ذلك استعراض مطول لأهم الميادين التي طالها الفساد في الدولة وفي المجتمع في العراق.

ما جاء في الفصول الستة عشر التي تستعرض تفاصيل الفساد هي غيض من فيض، اذ لم يكن ممكنا على الإطلاق الإلمام بجميع، او اغلب، قضايا الفساد التي عانى منها العراق خلال هذه الفترة لأسباب لا تخفى على احد.ولكن الأمثلة التي ضربت في الكتاب والوقائع التي جاءت فيه وتم الإشارة اليها في الهوامش والمراجع والمصادر يمكن ان توفر مرجعا مهما للمعنين، سواء لتوثيق بعض قضايا الفساد، او لمتابعة خريطة اتساع وتمدد هذا الورم السرطاني في الجسد العراقي ومعرفة آثاره المدمرة.

لم يكن ممكنا ابدا الوصول الى المعلومات التامة لرواية قصة الفساد في العراق كاملة، ليس فقط بسبب غياب الشفافية، وحجب المعلومات وعادة الإنكار المتأصلة لدى القادة والمسؤولين، بل وايضا بسبب المخاطر التي يتعرض لها الصحفيون والباحثون في محاولتهم الوصول الى المعلومات والبيانات، او التحقق منها، وهي مخاطر دفع ثمنها فعلا العديد من الصحفيين العراقيين الذي حاولوا القيام بهذه المهمة الجليلة.شخصيا حاولت سواء في مسعى الإعداد لهذا الكتاب، او ما نشرته من خلال مقالات صحفية عن الفساد، التواصل مع جهات ومؤسسات حكومية وبرلمانية معنية من خلال البريد الإلكتروني للسؤال والبحث وللتدقيق والتحقق في المعلومات الواردة في المصادر، الا ان كل محاولاتي تلك ذهبت ادارج الرياح.

لكن مع ذلك فان وقائع الفساد التي اشير اليها في ثنايا الكتاب، ورغم كونها جزءاً يسيراً مما دون في سجل الكتابات العامة عن هذه الظاهرة في مختلف أجهزة الإعلام ووسائل التواصل، اضافة الى مرويات مرموقة من صفحات التاريخ الشفاهي لهذه المرحلة جاءت على لسان بعض المقربين من الأجهزة الرسمية، او شهود العيان، تبقى لدي ذات مصداقية عالية نظرا لتطابقها بشكل يكاد يكون شبه كامل مع احداث ووقائع الحياة اليومية التي عاشها العراقيون، ومع تقارير ودراسات دولية معتبرة تناولت ظاهرة الفساد في العراق.يبقى اني سأعتبر نفسي مسؤلا عن صياغة الرواية العامة لوقائع هذا الفصل المأساوي من تاريخ العراق واتحمل مسؤوليتها وتبعاتها المهنية والأخلاقية والقانوينة لوحدي، آملا ان اكون قد اجتهدت فأصبت، غير ساع الى الحسنات، او الثواب، الا اكمال الرسالة التي اخذتها على عاتقي منذ ان بدأت تباشير الغزو الأمريكي للعراق في دحض الأساطير التي روج لها الأمريكان عن اهداف احتلالهم، وعن ذلك التاريخ الزائف والأوهام التي سعى لصنعها من اتوا بهم لحكم العراق.

ان هدف الكتاب يبقى مراجعة وتدوين لجزء من تاريخ هذه المرحلة المأساوية، ليس فقط من اجل نقض السرديات البالية التي انبنت عليها حكاية العراق الجديد وكل الأكاذيب والخدع التي رافقتها، بل كذلك لتذكير الأجيال القادمة من العراقيين بمسؤوليتها الأخلاقية والوطنية في اعادة قراءة هذه المرحلة التعيسة من تاريخ وطنهم من أجل إعادة وضع الأحداث ونتائجها في موضعها الصائب، بل الأكثر والأهم من ذلك، من اجل اتمام ما اخفق فيه جيلنا فيه، وهو توفير الأدلة الدامغة عن وقائع قضايا الفساد، احدى وسائل تدمير العراق، وتحديد كل ابطالها الأساسيين والثانويين، من اجل ان تتولى هذه الأجيال ما فشل فيه جيلنا، والقيام بملاحقتهم في كل مكان، لكي يدفعوا ثمن تلك الجرائم الخسيسة التي ارتكبوها في خراب العراق وتدمير خيارات شعبه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *