عندما كنت جندية
فاليري زيناتي
ترجمة
صلاح النصراوي
ج2 ف7
الجنديات يبكين أيضاًً
25فبراير، الساعة 6وعشرة دقائق مساءً.
أمس تمكنت من الإتصال بـ”جين-ديفيد.”قلت له أن لدي إجازة لليلة واحدة وأشعر بأني أرغب بالنوم في مكان آخر غير القاعدة.
تلكأ قليلاً، ثم قال ان بإمكاني أن أتي لكن سيكون لديه أصدقاء هذا المساء.
تملكني إحساس فضيع بالضعة، لكني قاومت، قلت لنفسي لابد من رؤيته، كانت حاجتي إليه أقوى مني، أقوى من مخاوفي بالرفض.
“سأترك لك المفاتيح لدى المنظفين”، أضاف،”سأكون هناك حوالي السابعة.”
شيء حسن أن أكون في بيته لوحدي، كأننا نعيش معاً.إستحميت، إرتيدت ملابسي، وإنسللت تحت غطاء سريره مع كتاب كنت إستعرته من “الإتحاد الفرنسي”.
لم أقرأ حرفاً واحداًً .
كنت في سريره، أتلحف بعطره الذي أستنشقه بعمق وعيناي مغمظتان.أفتحهما لكي أجدها أمامي.
حقيبة مكياج.
قنينة عطر، “جيوغرو من بيفرلي هيلز: التي اتنشقها مدركة انها الرائحة التي اكرها طيلة حياتي.
قميص قصير الأكمام من نوع “كوكي”.
مزيل روائح نسائي.
بدأت أرتجف وأتكلم بصوت عال، مرددة، “إنها ابنة عمه، إنها ابنة عمه، لابد أنها جاءت من فرنسا لكي تراه.”
لم يقل لي أن لديه ابنة عمة.
عندها سمعت صرير المفتاح في الباب، رفعت الغطاء إلى حد ذقني، متظاهرة بأني نائمة.سيكون رقيقاً معي على الأقل لثوان قليلة، ويوقظني.
مسد شعري بيد حزينة.
فتحت عيني ونظرت بإتجاه حقيبة المكياج.لم يقل أن “ابنة عمي جاءت لتراني”، تنهد.
وضعت الكتاب في حقيبتي و اتجهت نحو الباب.حاول أن يمنعني.
“انتظري على الأقل لكي تتعشي معنا.”
إنفجرت بالضحك، ضحك يائس، بلا رجاء.
“لا أريدك أن تجرحي”، قالها بصوت عنيد.
“حسناً، ها أنت قد فشلت”، أجبت وصفعت الباب خلفي.
لم يكن لدى وقت سوى أن أرى فتاة أكبر عمراً مني بقليل (22عاماً أو ربما 23) تنظر الي بتعجب.لم تكن حتى جميلة.
في الحافلة بطريق العودة، بكيت كما لم أبكي من قبل، ليس حتى مثلما تركته في المرة الأولى.
المرأة الجالسة إلى جانبي بدت قلقلة سألتني إن كان هناك شيء يألمني، ثم إن كان هناك قريب لي قد مات.لم تطاوعني نفسي أن أجيبها، لذلك احتظنتني طيلة الرحلة، وظلت تقول إن كل شيء سيكون على مايرام وأن الله سيكون إلى جانب أولئك الذين سيتعذبون.لم أكن أتصور بأني سألقى عزاءاً عند شخص غريب تماماً عني لم يتسنى لي أن أرى وجهه كما لا أعرف حتى أسمه.
في القاعدة بحثت عن البنات اللواتي كن في نوبة الحراسة تلك الليلة.”هيدي” كانت في نوبة العاشرة إلى الثانية صباحاً .”نوا” كانت من الثانية حتى السادسة.عرضت عليهما أن أخذ مكانيهما.لم تقولا شيئاً بشأن عيناي الحمراوتين، غير أنهما طرحتا فكرة أن اللوائح قد لاتسمح بالقيام بنوبتي حراسة متعاقبتين.قلت لهما هذا ليس شأنكما.لم تصرا، كانتا ممتنتان بأنهما ستنامان دون مقاطعة.
قمت بالدورية مع “عوفر” وهو جندي إحتياط الذي حدثني عن رحلاته إلى الهند.قال لي أن أول رحلة قام بها جاءت بعد أن هجرته صديقته.
“شعرت بأني تحولت إلى قالب من الثلج واحتجت أن ادفأ نفسي تحت سماء مختلفة.”
حوالي الرابعة فجراً بدأ المؤذن في القرية المجاورة بدعوة المؤمنين إلى الصلاة.
“إنهم يهينوننا”، قال “عوفر” (هو يفهم العربية بشكل تام).”انهم يوعدونا بالنار قريبا.”
كانت أسناني تصطك من البرد ومن الإرهاق، ولكني وجدت لدي القوة لكي أرد.
“قل له الا يتعب نفسه، المهمة أنجزت، أنا هناك بالفعل.”
نظر إلي بعطف.
“لا أتحمل صوت المؤذن”، يقول.”أنت تغنين بالفرنسية، هل لك ان تغني، كي لا نسمع المزيد من صوته هذا.”
بصوت متهدج أبدأ بتلك الأغنية التي كان يحبها “جين-ديفيد”:”قل لي، قل لي اذن، إنها هجرتني ليس لشخص آخر بل لي…”
غنينا بهدوء سوية لساعتين، بالعبرية، بالفرنسية، أغاني لـ”ايديث بياف” وغيرها كثيرين، أكتشفت أن بعضها يحفضها عن ظهر قلب في حين أني كنت أحفظ أجزاءً منها.”
سأكون في نوبتي بعد نصف ساعة.لم أنم لأربعة وعشرين ساعة.أشعر بالإرهاق.ذلك بالضبط ما أردته.
خلال أيام سيحل الأول من أبريل.سأكون في التاسعة عشر من عمري، وسأكون في إجازة.كل ستة أشهر يمنحوننا إجازة “طويلة”، لمدة أسبوع.وضعت خططاً كثيرة ولكني أعلم أني سأقضي نصف الوقت أعمل ما يعمله الجنود في العطل:النوم.
في الوقت الحالي، نجلس جميعاً في غرفة التلفزيون في القاعدة، مجتمعين حول “إينات”، ذات الشعر الأحمر، والتي تغلي بالحماس.اليوم ستنتهي دورة الطيارين الأردنيين وأخيراً سيمكنها رؤية وجه فارس أحلامها.
كي نتمكن من تحديد شخصية الرجل، قدمنا طلباً رسمياً ليأتي ضابط من قسم آخر على معرفة بالرجال الذين نعرفهم نحن بأسمائهم الرمزية.أعتقد أنه يبتسم بطريقة معينة.
تبدأ مراسم الإحتفال بحضور الملك حسين والملكة نور.إستعراض عسكري، عرض تمارين قتالية، الضيوف يتظاهرون بأنهم مهتمون جداً بالعرض، في حين أنهم ضجرون بشكل عميق…على خلافنا، نحن اللواتي نراقب المشاهد وكأنها لشريط فيديو عن “هنود البوبيان” إكتشفنا فجأة أننا على صلة بهم.
تأتي اللحظة الكبيرة.نسر-1 سيقوم بمنح الجناح الفضي لكل من الطيارين المتدربين، نفس الأشخاص الذين كان يوجه لهم الإهانات دون رحمة لثمانية أشهر.تنتقل الكاميرا إلى المنصة التي يقف عليها الطيارون بإنتباه.
“أقرب، أقرب،” نصرخ على التلفزيون.
أسمه عدنان ب” يقول صديقنا الضابط، والذي من الواضح أن إبتسامته تصبح أكثر سخرية.
“أعتقد أن ذلك يعني بالعربية، رقيق”، تقول “نوا” لـ”إينات” التي تكتم أنفاسها.
“أقرب، أقرب، أقرب” لا تزال الفتيات الآخريات ينادين.
فجأة يقوم مصور التلفزيون الأردني بشيء كان يجب الا يفعله:أنه يلبي رغباتنا ويأخذ لقطة مقربة لـ “نسر-1“، المكنى عدنان ب.
عدنان ب، رائد ومعلم.
عدنان ب بصوته العميق الدافئ.
عدنان ب الذي يمتاز بخاصية أنه يغني أغاني البيتلز بعد كل تمرين، أغنيته المفضلة هي “الغواصة الصفراء”.
عدنان ب الذي تحبه “إينات” بصدق (مهما بدا ذلك غير واقعي).
عدنان ب، أو “نسر-1“، طوله 1,55سنتيمتراً، أصلع، سمين، بشوارب وفوق الخمسين.
صمت رهيب حل على الجبهة الإسرائيلية، حالياً، في حين أن الأردنيين يطلقون بالونات ملونة وسط صيحات الفرح.بإمكاني القول أن الفجوة بين الدولتين لم تكن بذلك العمق، أبداً .
لا يتجرأ أحد النظر إلى “إينات” التي تتسمر في كرسيها.
“لا يمكن أن يكون ذلك هو”، تهمس “ايميك” باذن الضابط الجاسوس.
يومئ برأسه بأسف بالغ.الآن أستطيع فهم إبتسامته الصغيرة التي رسمها في البداية.
“أنت قاسي القلب”، أقول له كي يتأكد من أنه لم يتمكن من خداعي.
“لا، أنا لست كذلك”، يرد ببرود؟ : ليس مهماً كيف يبدو المرء، اليس كذلك؟على الأقل هذا ما لا تتوقف البنات عن قوله.”إستناداً لمصادرنا فان لدى عدنان ب ذكاء خارق، وهو مثقف عال المستوى، متقن لعمله، حساس و….أرمل.مالذي تريدين أن تعرفي عنه أكثر؟”
تسقط كف بسرعة على خده.تهجم “إينات” عليه بغضب، ونحاول نحن أن نوقفها.إضافة إلى خيبة أملها فأننا في الواقع لا نستطيع أن نسمح بأن تقضي عدة أسابيع في السجن لأنها صفعت ضابطاً في وجهه.
تقوم المجموعة بإسترضائه.”نحن جميعاً سنعتبر أن ماحدث كان خارج النطاق العسكري.لن أتقدم بشكوى، عمتن مساء وتعازي لك أيتها السيدة الشابة.”
تعجبت من رد فعله، أو بالأحرى غياب رد فعله عن صفعة “إينات”.هناك تفسيران محتملان.اما انه كائن فضائي أو أنه بالواقع بريطاني.إحتمال ثالث: إنه مجرد شاب في العشرين من عمره وأنه مثل معظم الملازمين الإسرائيلين رغب بأن يكون هناك جو من المرح.
في اليومين الأولين من إجازتي أشعر بأني خارج السياق، يبدو أن هناك متسعاً من الوقت.أنام حتى منتصف النهار، أتغدى عصراً، أرقد في الحمام لساعات وألتهم ثلاثة كتب خلال يومين.لأكثر من سبعة أشهر لم أخرج من بزتي العسكرية لأكثر من ثمانية واربعين ساعة.أكاد أنسى أنني رقيبة في الجيش الإسرائيلي.أنا حرة بأن أذهب إلى السينما مع “يوليا” وغداً هو عيد ميلادي وسنذهب إلى النادي في تل أبيب مع “فريدي”.
نتوقف في بار ونشرب قليلاً ونتكلم كثيراًً .أدرك أن لدى مشكلة في تقبل “يوليا” كما هي الآن (واثقة جداً من نفسها، مغرية، ومندفعة جداً، لكنها الشخص الذي يمكنني معها أن أضحك بشكل هستيري.هي لا تقاوم، خاصة حين -مثل اليوم- تقلد معلمينا القدماء، قائد قاعدتها، رئيس الوزراء أو دورق الألوان.اللؤم الذي فيها والذي يزعجني أحياناً يتحول إلى دعابة مرة.
كانت الساعة قد قاربت الثالثة صباحاً حين عدنا إلى البيت، ذراعاً بذراع، ملتصقين معا بالفودكا.
“هوووو، انظري هناك ضوء في بيتك”، تقول لي، أرنو نحو الدور الأول من العقار رقم 12 في “شارع سافيد”.
أمي لا زالت مستيقظة، ذلك لا يثير إستغرابي:في غضون خمسين عاماً ستظل تدخل علي ليلاً في البيت لكي تتأكد أني عدت سالمة، وعندها ستؤي إلى فراشها.
لكن النظرة التي أراها في عينها الناعستين ليست تلك التي تعودت عليها.
تتكلم بجد، وتقول بأن الرائد “أوري” اتصل بالتلفون لكي يقول بأن إجازتي الغيت دون أن يشرح ذلك، بطبيعة الحال.علي أن أكون في القاعدة عند الساعة التاسعة على أقل تقدير.لدي ثلاث ساعات لكي أعد حقيبتي، أنام، وأستعيد وعي.
***