عندما كنت جندية
فاليري زيناتي
ترجمة
صلاح النصراوي
ج2 ف6
حرب الحجر
لأول مرة منذ أسابيع تلتقي المجموعة كلها في بئر سبع في اجازة، نجلس جميعاً على العشب، عملياً تحت شباك غرفة نومي.”راحيل” تعود من مرتفعات الجولان حيث تعمل سكرتيرة في وحدة مدرعات، رغم أن عملها بعيد جداً عن عمل السكرتاريا.هي معالجة سايكولوجية، صديقة، أخت كبيرة وحافظة أسرار الجنود.هي التي تنظم الحفلات، والدعوات وأعياد الميلاد لكل الناس هناك.هي التي تعزي وتواسي، بعبارة أخرى هي التي توفر اللمسة الأنثوية لوحدة جميع أفرادها من الذكور.
تخبرنا عن مسرحية عرضتها مع باقي الجنود وعنوانها:الطاهي هو عدونا الأكبر.
“النص كان مثيراً للضحك.كل واحد أراد أن يكون له دور، وبضمنهم القائد والطاهي الذي عمل كل جهده لكي يدافع عن مكانته.”تبدو سعيدة جداً.أنا متأكدة أنها تشعر بالسعادة أكثر كونها تخدم في وحدة من الرجال وليست مختلطة.
عندما خرج “فريدي” من السجن لم يرد أن يعود إلى وحدته القديمة، فتم تعينه سائق لقائد الوحدة في المنطقة الجنوبية، والتي تتمركز في بئر سبع.
“يوماً ما كنت أغني بينما كان هو هناك، ومنذ ذلك اليوم وهو يطلب مني أن أغني على الأقل أغنتين في كل رحلة-يقول إنها تساعده على التركيز.بنته ستتزوج خلال شهرين وطلبت مني أن أغني في حفلتها.”
نصفق جمعنا، ونهنأه على ذلك.نشعر بسعادة لأن مواهب صديقنا أقر بها عقيد في الجيش.
“إيلان” يخدم في وحدة “غيفاتي” في غزة.“
“لا أريد التحدث عن ذلك.”يقول.”أنا أحيا في ذلك لمدة أربع وعشرين ساعة كل يوم.من حسن حظي أنهم يسمحون لي بأن أعزف على الغيتار، ولذلك يعود الفضل بأن لي الكثير من الأصدقاء.”
“إيلينا” ممرضة في قاعدة كلها من الرجال.
“كلهم يتملقونني”.بعظهم يريد أن تعطيه إجازة مرضية، في حين أن آخرين يريدون أن يبقوا نقاط ضعفهم مخفية.”
تبدو سعيدة للسلطة الصغيرة التي بين يديها.”راحيل” و”يوليا” وأنا نتبادل النظرات:”أنت لا تقصدين أنك أصبحت نجمة؟”
“كلهم يجثون تحت قدمي” تقول “يوليا”…لكن ليس للسبب الذي قد تظنوه، بينما تظفر حزمة من شعرها حول اصبعها.”ثم أني لا أقدم لهم القهوة، بل هم من يقدمها لي”، تقول بزهو.
تغمض عينها وتسحب نفساً من سيكارتها.منذ فترة قصيرة بدأت بالتدخين، وسط رعب أصاب المجموعة (نحن ضد التدخين بشكل قوي).ربما سأذهب للجحيم بسبب ما سأقوله ولكني سأقوله على أي حال، “التدخين يضيف شيئاً إلى شعورها بالثقة.”
بدؤا بتحويل إهتماهم إلي، بإنتظار أن أخبرهم عن حياتي في الجندية.
“هممممممم.لا أحد يجثوا على قدمي، والباقي كله “سري جداً”.أحياناً يتغير الأمر ويصبح “سري للغاية”، أضيف لكي يصبح الأمر مشوقاًًً .
“أنت غريبة الأطوار”، تستوقفني “يوليا”، ”هل أنت حقاً ممنوعة من الحديث إلينا؟”
لا، بإمكاني أن اتحدث إليهم.أكثر ما يمتعني في القاعدة هو ما أقوم به هناك، إنها اللحظة التي يعلن فيها طيار ما:”ثعلب-1” خلال تمرين والتي تعني أنه أصاب الهدف منذ البداية.أتخيله حينئذ نشواناً، سعيداً بما عمله، وأنا أشعر معه بنصيبي من تلك السعادة.الأصوات أصبحت مألوفة لدي وأحاول أن أتخيل الوجوه التي تختبئ وراء تلك الأصوات.”إيانيت”، ذات الشعر الأحمر وقعت بحب واحد من المدربين اسمه الشفري “النسر-1”، لا يمكنها الإنتظار إلى حين حفلة التخرج للدورة الحالية والتي سيتم بثها على التفزيون الأردني.(والذي نشاهده نحن هنا.) حتى تتمكن أخيراً من رؤيته وترسل إليه عرضاً للزواج- تلك ستكون قصة رهيبة.لم يأتي روائي بمثل هذه القصة بعد:جندية إسرائيلية شابة تعمل في محطة رصد تقع في حب طيار أردني من خلال صوته العميق.تغامر بحياتها بعبور الحدود وتكون إلى جنبه.هو مفتون بها ( هو دائماً يحب ذوات الشعر الأحمر).يسأل فيما اذا كانت مستعدة لأن تقضي حياتها معه.العصفوران يهربان من جيشيهما ويتزوجان في معبد بوذي في الهند.
“أنت ايتها الجاسوسة، هل لا تزالين معنا؟”
عودة على بدء:حلقت بعيداً جداً، جداً في السماء.
“منحوني بضعة ساعات بعد أن رقيت إلى رتبة الرقيب”، أتمتم، “ذهبت الى المركز الفرنسي وشاهدت هناك برنامجاً جيداً عن الثورة الفرنسية.”
الجميع ينظر إلي وكأني بدأت أتكلم بالصينية.
“فكرت ربما علينا نحن كذلك أن نبدأ بثورتنا أيضاً .”
يبدو أنهم بدؤا يعتقدون أني أسير من سيء إلى اسؤ.لكني استمر.فجأة أصبح لدي الكثير مما يمكني أن أخبرهم به.
“هيا، إسمعوا:مالذي تعلمناه في المدرسة؟اننا نعيش في بلد رائع بناه أبناءه بعملهم المضني وبقتالهم بلدانا أخرى تريد أن تراه يفنى.كل شيء وضع على خلفية موسيقية حيث كلمات “أرض”، “حقول”، “ينابيع”، و”جندي” تشكل ثمانين بالمائة من الأغاني.كما يقال لنا أنه دورنا الآن أن “نمنح الوطن شيئاً “، ننضم إلى الجيش ونمشي على خطى الأبطال الذين دافعوا عن الدولة.كل ذلك شيء جيد، ولكنه ليس الحقيقة، لم تعد كذلك.”
“ماهي الحقيقة؟” يسأل “فريدي” وهو يراقبني.
“حسناً، ينبغي أن نتوقف عن الهيمنة على الآخرين، علينا أن ننسحب من يهودا والسامرة ومن غزة.بعد ذلك علينا أن نتفرغ لمعالجة المشاكل في هذا البلد.ليس من المعقول أن نظل نقبل حقيقة أن بعض الناس يحصلون على الفتات من الرواتب في حين أن آخرين يملكون الكثير من الأسهم التي لا يدرون مالذي يفعلونه بها.ألم يكن الهدف هو بناء دولة يهودية إشتراكية؟حسناًً فلتكن كذلك.علينا أن نتوقف عن جعل الطلاب يدفعون رسوماً باهظة، في حين أن رجال الدين، الذين يجب أن أذكركم أنهم لا يخدمون في الجيش، ويدفعون ضرائب كل سبع سنوات، تدفع لهم الدولة دعما لكي يدرسوا.
“والقدس، مالذي ستفعلينه بالقدس؟” تسأل “يوليا”، التي تخذلني دائماً في اللحظة الحرجة.
أشعر بثقل في قلبي:لا يمكني أن أرى المدينة المقدسة مقسمة إلى جزئين.مشاعر لاعلاقة لها بالسياسة، ولكن مع ذلك…هل يمكن لجسم ما أن يعيش دون قسمه الثاني؟
“لا أعلم..علينا أن نجد حلاً ذكياً.”
تشعر “يوليا” بالإنتصار.وكما هي عادتها حين تكون متمكنة فأنها لاتتوقف.
“وماذا عن الإشتراكية؟هل تعتقدين الآن أن الإشتراكية جعلت الناس سعداء في الإتحاد السوفيتي؟”
“لا يمكنك المقارنة، تلك كانت دولة توتاليتيرية، اما إسرائيل فديمقراطية، وما أسأله هو مجرد القليل من المساواة لكل شخص”، أجيب واثقة من نفسي هذه المرة.
“لكن الفلسطينيين يهاجموننا كل يوم، كيف يمكن التفاوض معهم؟”، تحتج “ألينا”.
“ليس الأمر هو يمكن أم لا يمكن، بل علينا أن نقوم بذلك.”
“ماذا تعنين؟”، تتدخل “راحيل”.
“اذا ما استمرينا بالبقاء في الأراضي، اذا ما استمر الجيش بالتدريب بأسلحته على السكان المدنيين، فان هناك ما هو أسوء سيقع، العالم لن يعد يرانا كطلائع مثيرين للإعجاب.نحن لم نعد كذلك.لكن أسوء ما في الأمر أننا لم يعد بإمكاننا أن ننظر إلى أنفسنا بالمرآة…كما سيموت الكثير والكثير من الناس..للاشيء.أنظروا إلى “إيلان”، انه لا يريد أن يتكلم عما يبدو الأمر هناك.اذا كانت الأعمال العسكرية هناك مبعث فخر حقاً لجئت وقلت شيئاً، اليس كذلك؟”،أجيب، بينما أرمقه بنظرات نافذة.
“ليست تلك هي المسألة”، يقول بتردد.”أعتقد انك تغالطين نفسك اذا ما اعتقدت أن السلام ممكن.”
“لكن السلام ليس طيوراً تغرد وزهوراً تينع فجأة، مثلما تقول الأغاني!ما أقوله هو أن نعمل على حل هذا الصراع مرة واحدة والى الأبد، وليكن هذا البلد ما أراد أن يكونه حين ولد:بلد يعمه العدل، البناء والتضامن.”
“شوششششششش.صوتك مرتفع”، يحذرني “فريدي”، ولكن بعد فوات الآوان.أشعر بأني مبتلة من رأسي حتى أخمس قدمي.العجوز الرومانية التي أفرغت لتوها جردلاً من الماء علي كانت أفضل من اي رام محترف.
“هامففففف!إنه منتصف الليل”، تتأوف بينما تغلق شباكها.”أي وقت هذا الذي تتكلمون فيه بالسياسة.ليس تحت شباكي، على أي حال.”
أرد عليها بقوة، ليس لأني منقوعة بالماء بينما يحاول الآخرون أن يكتموا ضحكتهم، بل لاني لم أعد أجد المنطق الذي يمكنني به أن أقنع أصدقائي.
“لكن الثورات دائماً ما يتم التخطيط لها بالليل”، أصرخ بوجه الشباك المغلق.
بعد عودتي إلى البيت ألتقط النص حول نيوزيلاند الذي قرأته لنا “كينيريت” خلال الدورة.
لن أرغب بالعيش في بلد حيث لا شيء فيه يتغير.
الأحد صباحاً عند محطة الحافلات في بئر سبع.هناك حافلتان إلى القدس (التي علي أن أمر بها لكي أعود إلى القاعدة): حافلة رقم 405التي تمر من خلف الأراضي وتستغرق الرحلة فيها ساعة وأربعون دقيقة للوصول، وحافلة رقم 440 التي تمر خلال يهودا والسامرة عبر مدينتي الخليل ورام الله.خلال ساعة وخمسة وعشرين دقيقة تكون الحافلة قد وصلت إلى ضواحي المدينة المقدسة.
الحافلة التي تمر بهذا الطريق ستكون مميزة بين ألف حافلة:اذ عادة ما تكون معفرة بالتراب كما أن زجاجها مرقط بنجوم هي من نتاج الحجر الذي أعطى الإنتفاضة الفلسطينية اسمها، “حرب الحجر” أو الإنتفاضة.
أركب الحافلة رقم 440 وأعرف بأني لن أخلد للنوم هذه المرة.أعيش في إسرائيل منذ خمس سنوات، ومثل معظم الإسرائيليين، عدا الجنود الذين يقضون خدمتهم هناك، لم يسبق لي أن وطئت الأراضي.حان الوقت لكي أعرف عنها أكثر مما أشاهده على التلفزيون.
بين بئر سبع وأول القرى الفلسطينية هناك حوالي 20كيلومتراً من الأراضي التي هي أشبه بالصحراء.من السخف أني لم أعرف أنهما بهذا القرب.بدأت أشاهد بيوتاً مبنية بالحجر، غالباً فوق ركائز وبين الأحراش والطرق المحفورة.نسبة كبيرة منها غير مكتملة.الغريب أن معظمها يحمل فوق سطحه هوائي أشبه…ببرج “ايفيل”.تبدو لي بشعة ومؤثرة في آن.إذن هذا هو الحلم الفلسطيني:باريس!
يقول أحدهم في الحافلة،”إنها تمطر.”ذلك حسن، حين تمطر يقل الحجر الذي يرمى علينا.”
من لحيته وقبعته أدرك أنه يهودي يعيش في الأراضي، من يسمونهم المعارضون بالمستعمرين.لعله يتأكد من نشرة الأحوال الجوية قبل بدء الرحلة.
تنتشر القرى على مسافة كيلومترات عديدة.لا يعرف أحد أن يبدأ مكان ما وأين ينتهي.فقر، حزن، كراهية.بإمكاني أن أرى كل ذلك في الوجوه التي تنظر إلى الحافلة ذات اللونين الأحمر والأبيض بين حين وآخر.عجائز يتعكزون على عصي، يبدون محترمين، مثل أولئك البدو في فلم “لورنس العرب”.أطفال في ملابس مترهلة.نساء بوجوه تعبة متغضنة، يحاولن موازنة سلال فوق رؤسهن.هناك بعض الفتيات بملابس رمادية عائدات من المدرسة ويصرخن في وجوهنا- شيئاً ليس بودي سماعه.سيارات مرسيدس عفا عليها الزمن، حمير، قطعان من الخرفان، أشجار زيتون.
أشعر أني عبرت حدوداً، ولكنها ليست حدوداً جغرافية.أين أنا؟مائة سنة، مائتين إلى الورراء.
أبراج المنائر تستلفت نظري.بين الحين والأخر بإمكانك أن ترى الطابوق الأحمر لمستوطنة يهودية فوق التلال.
تتوقف الحافلة مرات عديدة، ينزل منها جنود ذاهبون إلى معسكراتهم ومدنيون إلى بيوتهم.لا يتبقى منا سوى حوالي عشرة حين نقترب من الخليل، أكبر مدينة في يهودا.كل الركاب إختاروا بحصافة أن يجلسوا عند الممشى، إلا أنا.أحشر أنفي في زجاج النافذة.أريد رؤية كل شيء.
صوت إرتطام عنيف تحت وجهي تماماً.خلال تلك البرهة أتيح لي أن أرى فتى يرمي من مقلاعه.وجهه صارم وحاقد.كان يوجه حجره نحوي.إني متأكدة فأنا ألبس البزة العسكرية، أنا العدو الأكبر.
أشعر كأني أريد فتح النافذة وأصرخ عليه.”أنت، أنا بمثل عمرك وأفكر تماماً كما تفكر!”
لكن الحجر كان ينهمر علينا في تلك اللحظة.السائق يسرع، سرعته أكثر من المقرر قانوناً، ولكني سأستغرب لو انه توقف عن ذلك.في الأراضي الجيش الأسرائيلي هو وحده صاحب السلطة.
كل من في الحافلة ينبطح أرضاً، وأنا من ضمنهم.نتطاير من اليسار إلى اليمن ومن اليمين إلى اليسار لكي نتفادى القذائف.مع كل حجر أشعر بألم كأني من ضربت به.أسمع إنفجار.لا يمكني القول من أطلق النار واذا كان هناك أحد قد قتل أو جرح.أنفجر بالبكاء ويحاول ركاب الحافلة تطميني.ليس لدي الرغبة بأن أخبرهم بأني لا أبكي لأني خائفة.
****