عندما كنت جندية
                                       فاليري زيناتي
                                             ترجمة                       
                                     صلاح النصراوي
ج1 ف4
                                  إلى السلاح…، إلى آخره.
توقظني أمي بطريقة أكثر لطفاً مما هو معتاد.إنها السادسة والنصف وعلي أن أكون في مكتب التجنيد في غضون ساعتين.
“ماما…الوقت مبكر جداً” أغمغم.”دعيني أنام قليلاً.”
“لا”، ترد بحسم.”لايجب أن تذهبي إلى الجيش وأنت على عجل.”
أجر نفسي من تحت غطائي.رأسي ثقيل قليلاً.أعرف أني حلمت بـ”جين-ديفيد”:كان في دوامة، ولم يكن بوسعي الإقتراب منه.كان يرسم على وجهه تلك الإبتسامة الساخرة الدائمة، ولم يلحظ الجهد الذي كنت أبذله، ولا خيبة أملي اللاحقة.ثم كان هناك ثمة إطلاق نار، لكن ربما كان ذلك صوت مقبض الباب الذي كانت أمي تديره وهي تدخل الى غرفتي.
اتسلل إلى الحمام، وأشعر كان الأمر برمته يجري بطريقة آلية.كيف يمكن للجسد أن يقوم بكل تلك المناورات حين يكون العقل متوقفاً، حين يكون هامداً.أعد نفسي بأني سأحاول أن أجد كتاباً بشأن الموضوع.أفترض دائماً أن جميع الأجوبة موجودة في الكتب.
أمي صنعت فطوراً من طراز خمسة نجوم.كيك، رائب محلى بالقيقب، شكولاتة حقيقية ساخنة، عصير برتقال طازج.لابد أنها استيقظت الساعة الخامسة لكي تنجز كل هذا، ولكي تسعدني، ولكن من غير أن تدرك أنها قد تجعلني أبدو مثل مدان بالموت يلتهم وجبتهه الأخيرة-في هذه الحالة مدانة.أحصل الآن على الأفضل قبل أن يرسلوني لكي أواجه الأسؤ.أنا أبالغ.دعوني أقول الأمر بشكل صريح أنا الآن في طريقي لكي اواجه المجهول، وهو بالتأكيد أمر مثير للمخاوف كبداية.
بعد أن أنهيت وليمتي، أنزل لكي أتمشى قليلاً في الجوار.أمشى بين الممرات والمساطب والمساحات الصغيرة المعشبة.ثم أمضي ناحية زاوية العمارة التي يقع فيها بيتنا وأرنو من هناك نحو مدرستي التي تقف أمام الصحراء، ثم أنظر إلى شباك “يوليا” وبعدها إلى شباك “راحيل”.أطبع كل التفاصيل الدقيقة في مخيلتي، وكأني التقط صورة لعالم مراهقتي، بالضبط مثلما عملت لعالم طفولتي في الريف الفرنسي قبل أن أغادره قبل خمس سنوات.
عرض علي “فريدي” أن يقلني إلى مكتب التجنيد.ذكرته أنه جندي هارب من الجيش، وأن ذلك هو أسؤ مكان يمكن أن يذهب إليه.يضحك ويرد بأن صورته ليست معلقة في كل القواعد العسكرية ضمن قائمة أكثر المطلوبين.ثم يضيف:”أن ترمي نفسك إلى فك الذئب، هي أفضل طريقة لكي تتفادي تحديقه بك.”بإمكاني القول ان “راحيل” قلقة لكنها لا تقول شيئاً.
في تمام الساعة الثامنة يتم وصول الجميع.
يأتي “إيلان” الذي حصل على إجازة سياقته تواً بسيارة والدته.سيارتان ليستا بالكثير، اذ أن هناك عشرة أصدقاء سيصاحبوني.أنه موكب رئاسي، تكريم غير مسبوق، يكرسه بشر.يشكلون حرساً للشرف، ويؤدون تحية عسكرية لي.أشعر باني على حافة البكاء، كما فعلت أمس.غددي الدمعية تبدأ بالسيلان بطاقتها القصوى، أنها تعمل ساعات إضافية غير مدفوعة الأجر.أنا سيدة الغدد الدمعية المسالة.
يضع “فريدي” أغنية “شلومو ارتيزي” على أعلى درجات الصوت.”لكني جندي أيتها الفتاة الصغيرة فلا تبكي”.يعلو صوتنا.”ولكني جندية أيها الصبي، فلا تبكي”.خلفنا يقرع “إيلان” بوق السيارة من حين لآخر على نغمة اللحن الذي يستمعون إليه.لم يعد الأمر مجرد جعجعة، بل تجربة في قياس مدى تسامح الناس مع مستويات الصوت.ولكن ليس هناك من يعترض.إنهم يعرفون أن الخريف هو موعد الحصاد وأن المحصول هو شباب في عمر الثماني عشرة.
في الخارج يبدو مكتب التجنيد مثل سوق لقطيع من الجنود.ناس تصرخ، تتعانق، تضحك، تبكي.البنات اللواتي في طريقهن إلى أن يغادرن، مثلي، من السهل التعرف عليهن. فهن محاطات بأصدقاء ومعارف، يتحلقون حولهن.الدفئ الذي يحيط بهن مستساغ.جرعة من الصداقة، حصة أخيرة من الحب، قبلة من أب، أو أم.قبلة لأخ صغير، يقف بإعجاب صامت (هناك واحد ربما في السادسة، أو السابعة) يرتدي ملابس عسكرية وينظر إليه الجميع بحب.أشيح بنظري بعيداً بإرتباك.
الأباء والأمهات يمكن التعرف عليهم أيضاً.أنهم في الخامسة والاربعين من أعمارهم، وليسوا في العشرين بطبيعة الحال، ولكن أكثر ما يلاحظ أنهم من تدمع أعينهم، يبدون فخورين وقلقين في نفس الوقت.يتفادى أحدهم نظرات الآخر التأمرية.الظاهر أنهم يفهمون بعضهم البعض من دون كلام.
كما أن هناك الإعلام.حين يقترب المصورون من البنات فان معظمهن يأخذن موقفاً يبدين فيه وكأنهن في وضع طبيعي، على أمل أن يكن فوق صفحات الجرائد في اليوم التالي مع خبر صغير:”العد العكسي، في الطريق إلى الجيش” أو “قبلة قبل الخاكي.”
بسرعة أرفع نظاراتي عن عيني.اما “يوليا” فان أجفانها ترتعش بسرعة خاطفة.
“أصدقاء وخصوم للآبد”، أتمتم مع نفسي.
فجأة تندلع حركة في الحشد الواقف.جندي يظن نفسه رئيس الأركان أو شبيه بـ”رامبو”، يندفع ممتطياً مقدمة احدى الحافلات التي كان محركها يعمل مستعدة للإنطلاق.ينظر إلى الحشد لثوان، بينما ترتسم على شفتيه إبتسامة سادية.تغمره سعادة تمنحها اياه لحظات السلطة التي تعبر عنها نظرات البنات التي تكاد تأكله، وكأنه يحمل حياتهن بين يديه، في حين أن كل ما كان لديه هو حفنة أوراق يقرأ منها بلا مبالاة مقصودة.يهبط سكون، يتنحنح ثم يبدأ التمثيل.
أشعر وكأني عام 1914 وأني جزء من التعبئة العامة.
“سيداتي، ايتها الجنديات.سنبدأ الآن بسحب القرعة.لا، أنا أمزح معكن.حين أقرأ أسمائكن أرجو من كل واحدة أن تنهض وتمضي إلى الحافلة وتعطيني رقم تسلسلها.هل لي أن أطلب منكن الا تطيلن التوديع.أنه أمر ضار بالصحة، كما أنه لن يساعدكن في إنقاص الوزن.”
تجز “يوليا” أسناناها بإشمئزاز.
أتمنى أن أفعل مثلها، وأن أصرخ بأنه مجرد غبي مزعج.ولكني أرتعب من فكرة أن يكون هو الأحمق الأول الذي أبدأ به هذه الرحلة الطويلة، وبالتأكيد لن يكون الأخير.
“كما أنه قميء.” تقول “يوليا” لتواسيني.
“إنه مجرد جندي إداري.يهمس “فريدي”.”انظري إليه بإمعان وستدركين أنهم جميعاً كذلك، لا أدري لماذا يشبهون بعضهم بعضاً، وكأنهم من عائلة واحدة.”
“الغباء هو سمة عائلية.”يقول “إيلان”.
يحملق الجندي الإداري بنا.ولكن بسبب المسافة بيننا فلا يمكنه سماع الحديث الذي يدور بيننا، ولكن لمجرد أننا منهمكون بالحديث فأن ذلك هو بمثابة إهانة له، لأنه بالتأكيد ينتظر منا صمتاً مطبقاً.
يبدأ صلواته.
“تالي افنيري…”
تنفجر كتلة من اللحم على رأسها شعر مجعد بالبكاء، وتحضن أمها.يتفرق الحشد لكي يفسحوا لهم المجال لكي يمروا، وكأنما إشارة إنطلقت، وعلت صيحات الوداع، مما حدا بالإداري أن يرفع صوته الطالع من أنفه لكي يجعل الجميع يسمعونه.
“رونيت بيربي..”
أقبل كل واحد عشرات المرات بإحساس المتعجل.يقولون أشياء كثيرة تختلط معا حتى لم اعد أسمع شيئاً.
والدي في ذروة إنفعالاتهما وتبدأ دموعهم بالهطول.
تعتذر والدتي“وعدت نفسي ألا أبكي..فلم أرد…”
“لا تعبئي بذلك.”أهمس في أذنها.”لايمكنك أن تكوني مختلفة عن الآخريات.وعلى أي حال، فأن الأمر ليس بذي بال.فمهما كان الوقت الذي ستنهظين به لكي تلتحقي بالجيش عليك دائماً أن تسرعي الخطى.
تبتسم من بين دموعها.يعانقني أبي بحنان ويهمس بعبارات تبدوا مثل “إعتني بنفسك.”أصدقائي يقولون أشياء تهدف إلى إثارة ضحكي.
حرف (زد) هو الحرف السابع في الألف باء العبري.لن يطول الوقت حتى أسمع أسمي.
“تامي فارشافيسكي…فاليري زيناتي…”
أعض على شفتي، أحاول أن أحافظ على توازني وأنا أرفع الكيس الذي يصل وزنه إلى ثلاثة أطنان وأناول أوراق إستدعائي إلى ذلك القميء، الذي إنتقل بالمناداة على الأسم التالي.
أختار المقعد الأخير القريب من الشباك.الحشد يتجمع حول الحافلة، هناك من يومئ بالحب، بالوداع أو بالتشجيع.تمتليء الحافلة بسرعة، تغلق الباب، وتشرع الحافلة بالمسير وتختفي الوجوه.
أتمدد في مقعدي وأغمض عيني.
كل شيء انتهى.إنها فقط البداية.
تمضي الحافلة خارج المدينة، ترعد على الطريق الصحراوي بإتجاه تل أبيب.هو ذات الطريق الذي قطعته عشرات المرات من قبل ولكني أشعر الآن وكأني لا أعرف أين ينتهي.جئت بجهاز اللإستريو معي، وأرغب بالإستماع إلى شريط “داني روباس” الذي أهداه لي أصدقائي.
هناك كوع يلدغني في الجنب ويجذبني بعيداً عن الموسيقى التي بدت لي وكأنها تراتيمي الخاصة.أنزع سماعات الأذن.البنت التي تجلس إلى جانبي تنظر إلي بنظرة تأنيب.
“يا حلوة، هل تعتقدين أنك في رحلة إلى “إيلات؟ الا تدركين أننا الآن جنديات؟”
“إذن، مالمشكلة؟”
المشكلة.هناك على بعد خمسة مقاعد.متر وسبعين سنتمتراً، ويبدو مثل عجل، غير أنه ليس مرئياً.إنه مسؤول عنا حتى نصل إلى قاعدة الإستقبال.”
“نعم، ولكن ثم ماذا؟”
“لقد قال لتوه أنه غير مسموح بالإستريو.”
“ولكننا لسنا على طائرة على وشك الاقلاع.” أرد بغضب.
“لا علم لي بذلك، فلم يسبق لي أن ركبت طائرة من قبل.ولكن ما أعرفه أن عليك أن تهبطي إلى الأرض والا فانك لن تصلي إلى أي مكان اذا ما واصلت ذلك.ستواجهين مشكلة حقيقية.”
“أنت تغمرينني بالتفاؤل، لا بد أنك ملاك النهايات السعيدة.”
“وأنا بإمكاني القول أنك ستكونين ممتعة.أنت لست كالآخريات.تبدين وكأنك هبطت بضربة حظ… مثل ..مثل..”
تحاول أن تعثر على إبتسامة وأنا أحاول أن أساعدها.
“مثل براز الطيور.”
تتسع عيناها بتعجب.
“لابد أنك من كوكب “دولالي”.تقول بإحتجاج.إنه كوب جديد ضمن مجموعتنا الشمسية.”
“نعم، هذا صحيح، أنت ذكية جداً، ملاك النهايات السعيدة.ولكي أكون صريحة معك فقد جئت لكي أتجسس على ثاني أقوى جيش في العالم، أم هل هو الرابع، لست أتذكر.”
“ستنجحين في مهمتك.اذا كان الجميع مثل ذلك العجل الذي كنتم تهزؤن به أنت وأصدقاؤك قبل قليل.لن يكون الأمر هيناً عليك لكي تدركي مدى قوة الجيش الإسرائيلي.”
“هنا أنت مخطئة، أيتها المسكينة ذات الخيال المحدود.ليس العجول أو حتى الأولاد ما يعنوني.إنه الجيش برمته.نقطة.فقرة جديدة.”
“هممممم…..لديك كومبيوتر معقد في رأسك.”تهمس بإعجاب.”أتمنى الا نفترق سريعاً بعد وصولنا للقاعدة.هل لديك أدنى فكرة عما سيفعلون بك؟”
“همممم…نعم، ربما.خلال العام الماضي أستدعيت ربما أربع مرات لإختبارات نفسية.لخدمة الإستخبارات ربما.لكن لا شيء أكيد.”
“ها..ها أنا أمام جندية حقيقية.”
أومئ برأسي مواقفة.حان الوقت لكي أظهر بعض الإهتمام بها.
“وهل تعرفين أنت إلى أين ستذهبين.هل تعرفين مالذي تريدين عمله؟
“نعم، أنها مرسومة في ذهني، أنا أريد أن أكون معلمة رياضة.”
هذه القناعات الراسخة توقعني في ورطة.أنظر إليها بتمعن.نحن الأثنتان جالستان، ولكن لدي إحساس بأننا في نفس الطول، حوالي 164سنتميتراً.هي أكثر ذكورية كما يمكنني أن أستنتج من عضلات ساعديها ورجليها.شعرها الكستنائي قصير جداً، قصة شائكة هي المودة السائدة منذ حوالي عام.لا أدري لماذا ولكني دائماً ما إعتقدت أن البنات بقصات الشعر القصيرة تلك يكن شديدات الثقة بأنفسهن، يمارسن الرياضة وإجتماعيات.وبعبارة أخرى انهن في سلام مع أنفسهن.ملامحها مربعة، جلدها ناعم وعيناها خضراوان، كلها متنافرة وكأنها كانت طيلة عمرها تحاول الهزء من العالم حولها، وستبقى كذلك.تزرع الثقة في نفسي.آمل الا نفترق حين نصل إلى قاعدة الإستقبال.
“علي إبلاغك، من باب المعرفة بالشيء، بأن أسمي هو “فاليري زيناتي”.”
“سعدت بلقائك، إحتراماتي…وأنت لك الشرف بمخاطبة “إينات هايموفيتش”.”
“لا أدري ماذا أقول…هل تعتقدين أنه من غير المسموح لنا بالنوم؟”
“ذلك العجل الصغير لم يقل شيئاً عن ذلك.”
“حسناً، اذا سمحت لي فأني أريد أن أغمض عيني قليلاً.لدي شعور بأن ذلك لن يكون متاحاً كثيراً خلال الأيام القليلة القادمة.”
“صدقت، “فاليري زيناتي”.دعيني أفعل ذلك أيضاً.”
أوافقها وأغمض عيني.في نصف إغماضة أرى رأسينا يستريحان أحدهما إلى الآخر.أشعر بإرتياح.
الصوت الاتي عبر المناخير والمضخم بمكبر الصوت يوقضنا بحدة.
“ايتها الجنديات، نحن على وشك المرور عبر البوابات إلى قاعدة الإستقبال.ستمضون اليوم هنا.ستستلمون أغراضكم وتنهون إجراءات التسجيل.وبعدها سترسلون إلى قاعدة التدريب حيث ستلتحقون بالصفوف.”
احدى الفتيات في المقاعد الأخيرة ترفع يدها وتسأل برجفة:”هل صحيح أنهم سيطعموننا باللقاح.”
موجة من الضحك تسري في صفوف الحافلة.تعتذر الفتاة والدموع تجري في عينيها، بينما تتمتم بأنها ترتعب من الحقن.
العجل يؤكد الخبر المؤسف، مضيفاً، “أرجو أن تظهرن أفضل ما عندكن خلال السنتين القادمتين.”
تميل “إينات” نحوي وتهمس،”نسى أن يقول وداعاً، وبلا رجعة.”
أبتسم لها.أنظر إلى خارج النافذة.نحن على حاجز بوابة القاعدة.هناك لوحات بيضاء معلقة على سياج الأسلاك الشائكة كتب عليها:”منطقة عسكرية مؤمنة.يمنع التصوير.المخالفون يعاقبون بموجب القانون.”
سبق وأن رأيت العشرات من هذه اللوحات في الماضي.إسرائيل بلد صغير جداً، ومن الصعب الا ترى منطقة عسكرية كلما خرجت من دارك.ولكن مثل باقي الفتيات في الحافلة لم يتسنى لي أن أعرف مالذي يختبأ وراء الأسلاك الشائكة.قلبي يخفق بشكل أسرع قليلاً، أفقد صبري وينتابني الخوف.هذه واحدة من أكبر القواعد في إسرائيل والتي تقع على حافة تل أبيب.كل جندي إسرائيلي سواء أكان فتى أو فتاة لابد وأنه قضى يوماً أو يومين من حياته في هذا المكان.أول يوم في الخدمة وأخر يوم فيها.
هناك جندي يقوم بالحراسة على البوابة.يبدو ضجراً بشكل لافت.يفتش حقائبنا بلا مبالاة، يقول بضع كلمات إلى مرشدنا ثم يلوح للحافلة بالمرور.تسير الحافلة لبضعة دقائق قبل أن تتوقف أمام عدة مباني مشيدة بطريقة البناء الجاهز.هناك امرأة بإنتظارنا، ضابطة كما هو واضح من الرتبة التي تحملها على كتفها.يهبط مرشدنا من الحافلة يؤدي التحية لها.ينتابني شعور بأن هذه مجرد تمثيلية صغيرة هدفها أثارة إهتمامنا.الضابطة ترد التحية.
نترجل من الحافلة.
“صباح الخير يافتيات.أنا الرائد “ساريت نيغون”، أنا مسؤولة عن الإستقبال والتدريب.إدعوني بالرائد، لاشيء غير ذلك.هذه هي المرة الأخيرة التي ستكونن فيها فتيات.اليوم ستصبحون جنديات، وعندما تخلعون البزة العسكرية بعد سنتين، اذا ما سار كل شيء على ما يرام، ستكونن سيدات.”
“هذه ليست تحية إستقبال أنها خطبة مأتم.”أهمس في أذن “إينات”.
“لم توضح في ما اذا كان فض البكارة هو جزء من الثمن كذلك.”تهمس هي ايضاً.
“عليكن تعلم بعض القواعد الآن.”تستمر الرائد “ساريت” بالقول.القاعدة الأولى، لاتسألوا أي سؤال عدا في الحالات الطارئة.كل ما ستأمرون به تم مراجعته من قبل أناس مسؤولين ومتمكنين.يجب تنفيذ أي أمر يصدر من أي شخص أعلى منكن رتبة، طبعاً على الا تكون قتلاً، أو خيانة، أو إعتداء جنسي.”
ضحكة مكبوتة يضج بها الجميع.
“القاعدة الثانية:لا ضحك، لا كلام، ولا حتى حركة عندما يخاطبكم أحد ما.لا أحد هنا موجود بهدف المتعة.هناك مجموعة معدة من القواعد العامة ستعطى لكل واحدة منكن في قاعدة التدريب.والآن ستستلمون أرقامكن وهوياتكن العسكرية وبعد ذلك سيتم تطعيمكن.”
صاحباتي يغلقن أفواههن.هل هن خائفات فعلاً، أم أنهن يخشين من إظهار عجيزاتهن أمام الجميع.
شخصياً أنا لست خائفة من أي منهما.
“ستتناولون الغداء هنا ثم توزع عليكن البزات.وسأستغل هذه المناسبة لكي أتلو عليكن القاعدة الثالثة.إن سرقة أو ضياع أي قطعة من الملابس أو المعدات أو السلاح عقوبتها السجن مدة تتراوح بين أسبوع إلى سبع سنوات.واضح.والآن العودة إلى اليوم.بعدما تغيرن ملابسكن وترتدين البزات سيتم نقلكن إلى قاعدة التدريب، بالحافلة، وهناك ستبدأ رسمياً فترة الخدمة العسكرية.والآن إتبعوني.”
نشكل طابوراً منفرداً.الجميع متعاونات وكأنهن طالبات في المدرسة الإبتدائية.”إينات” تسير خلفي مباشرة.
نمضي إلى مساحة مغطات يصطف فيها بعض الجنود الإداريين الذين ينظرون إلينا شزراً.أدرك أنها لن تكون المرة الأخيرة التي نتعرض فيها إلى مثل هذه الاهانات الحمقاء العابرة.نحن الفتيات الجديدات وتلك هي الحالة التي سوف نبقى عليها لبعض الوقت.
يتم تصويرنا لعمل الأوراق الثبوتية.ليس هناك وقت لكي تختاري الوقفة أو تعدلي شعرك أو تصطنعي إبتسامة، عشر ثواني هن أكثر ما يمكن أن تأخذه كل واحدة.
يعطوا كل واحدة منا قرصاً معدنياً ذي جزئين معلقاً بسلسلة متينة ويأمروننا بالا ننزعه أبداً.على كل جزء من القرص كتب الأسم واللقب والرقم العسكري.يخبروننا بأنه في حالة الموت، أو القتل في المعركة فأن القرص سيساعد على معرفة هوية الضحية.اذا كان من الصعوبة نقل المصاب من ساحة المعركة فان الجندي السليم سيقوم بكسر القرص ونزع نصفه لكي يأخذه إلى السلطات إلتي تأخذه بدورها إلى عائلته، في حين يترك النصف الآخر على جسم المصاب.حين يؤخذ الجندي أسيراً فأن القرص يعني أن بإمكان الصليب الأحمر التعرف على هويته.
أثارت الأشارة إلى إمكانية الموت ضلالاً من الجدية على وجوه كل واحدة منا.الف السلسلة حول رقبتي وأبدأ بفرك القرص لتدفئته، بينما أبقى مرعوبة بما أطلقه هذا الصوت الميكانيكي عن الجثث والضحايا والموت وأرض المعركة والعائلة التي ستنقل إليها الأخبار المؤكدة.
أستدير نحو “إينات”.
“كان بإمكانه أن يقول كل ذلك بصوت أكثر رقة، أكثر حزناً وأكثر إعتذاراً.لقد بث كل ذلك الرعب وكأنه كان يروج لبضاعته في مركز تسوق.”
“الجيش ليس للشعراء، يا فتاتي العزيزة.”
تبدأ الرائد بالحديث مجدداً.
“إحفظن أرقامكن العسكرية، هنا هذه الليلة.إنه هويتكن.عليكن بترديده بسرعة حتى لو أوقضت إحداكن في منتصف الليل.”
أنظر إلى قرصي: أنا 3810159.رقم “إينات”، (علي أن اقول) “إينات” هي 3810168.
يعطونا بطاقة الأسير.تستوقفني بطاقتي، مكتوبة بالعبرية والفرنسية والتي أصبحت معروفة بأنها لغة الجيوش العالمية.يملؤني ذلك بالغبطة، وهو ما أثار إستغرابي قليلاً: كأنها فرنسا، رغم أنها بعيدة جداً، غير أنها تعطي مؤشراً على الصداقة، مؤشر بإمكاني وحدي أن أفهمه، وسط إستغراب باقي البنات اللواتي حولي.أغرق نفسي بإهتمام جدي بقراءة ملخص إتفاقات جنيف المطبوعة خلف البطاقة.
بعد ذلك يأتي دور التطعيم، الألم، لاننا كنا متوترات جداً كدنا أن نموت، عشرون منا في غرفة واحدة رافعات مؤخراتنا عالياً.
ثم جاء دور الطعام في مقصف كبير.نحمل صوانينا ونمر من بين جنود يرتدون بزات القتال يتدافعون، يتبادلون النظرات والضحكات.هناك شيء ليس بإستطاعتي فهمه:لو كنا التقينا مع هؤلاء الفتيان والفتيات في ظروف مغايرة لكنا تبادلنا الأحاديث بشكل طبيعي، كأشخاص متكافئين.لكن في هذه القاعدة لكل منا دور يلعبه، نحن نمثل مجموعة (الأحداث) بمواجهة أخرى (الأقدمون)، وفي الحقيقة لايهم كثيراً من يكون ماذا، فكل عنصر لابد من أن يعمل ما بوسعه ليسخر من الآخر.أعترف لـ”إينات” بما في خاطري، أتوقع أن يكون هناك بعض التعليقات الساخرة.لكن ذلك لا يحدث.هي تومئ برأسها بشكل جدي.يقودونا لكي نقوم بعمل شيء آخر.شيء كان زاد حديثنا مع صديقاتنا خلال الأشهر القليلة الماضية: البزة العسكرية.
أعتقد أننا جميعاً نتوق لها بشكل غير معلن لأنها ستحولنا، ستمنحنا بعض الغواية، بعض الثقة، إحساس بالهوية.تمتد آيادينا بتوق لكي تتلمس الحزمة؟في الداخل هناك كيس كبير مصنوع من الجوت (كيس الجندي) قميصان بأكمام طويلة، قميص واحد بأكمام قصيرة مصنوع من القطن الخشن، بلوزة واسعة، زوجان من السراويل، تنورة تشبه كيس البطاطة، أنوراك رجالي نوع “ميشلن”، قبعة سوداء عليها رمز الجيش الاسرائيلي، حقيبة ظهر (سوداء كذلك عليها خيطان من الشرائط الفسفورية حتى يمكن رؤية حاملها بالليل.) مع أحذية من موديلات الخمسينات والتي تعرف بأسم حذاء “غولدا” نسبة إلى “غولدا مائير” التي استعملت 82زوجاً منها خلال حياتها، والتي كان إهتمامها بالأزياء أِشبه بإهتمام فلاحة من أوكرانيا في القرن التاسع عشر.
تحذير بالا نقوم بأية تحويرات في البزة لأننا قد ننقل إلى البحرية أو القوة الجوية حيث أن بدلاتهم رمادية.بالنسبة لسلاحنا، والمعدات وبدلة القتال فاننا سنستلمها من قواعد التدريب.
نرتدي البزات في زمن قياسي وتبلغ الإثارة أقصاها أمام المرآة الوحيدة التي في الغرفة.دهشة وزخم من العواطف والسعادة في إرتداء البزة، شيء أشبه بإرتدائك لحذاء أمك وأنت طفل صغير.يمضي الوقت سريعاً.
يأمرونا بالإسراع والخروج والوقوف في تشكيلات من خمسة في كل صف لكي يعطونا هوياتنا وأخيراً للصعود إلى الحافلة.الفتيات اللاتي يعرفن بعضهن يحملقن بفرح في عيون بعضهن البعض.أضغط على قبضتي بشدة، وآمل بغباء أن يعني إستعراض القوة هذا أن يتم أرسال “إينات” معي إلى نفس القاعدة.
النداء على الأسماء ثانية.أنتظر سماع رقمي.أحي صديقتي الجديدة بإشارة صغيرة وأمضي ببطئ إلى الحافلة وفي حلقي غصة.أكاد أن أقع على الأرض بعد أن يصدمني كيس يبلغ وزنه نحو 65 كليو غراماً.خمسة وستون كليو غراماً هو تقدير تقريبي يمثل وزن “إينات” ال 55كيلو غراماً و10 كليوغرامات هو وزن كيسها.
ها نحن على الطريق.أنا في البزة أجلس إلى جانب فتاة أصبحت لتوها قريبة مني، وهي أيضاً في البزة.أنظر إلى ساعتي.
مضت نحو عشر ساعات منذ ابتدأنا.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *