صفوة القول (19)
مختارات من اراء وقضايا
هل تشعل تفجيرات نيويورك وواشنطن صراع الحضارات بين أميركا والعرب ؟
صلاح النصراوي
مجلة الوسط 19 سبتمبر 2001
في صباح اليوم التالي للتفجيرات التي أطاحت بمركز التجارة الدولي في نيويورك ودمرت اجزاء كبيرة من مبنى البنتاغون خرجت جريدة “كرستشين ساينس مونيتر” الاميركية المعروفة عادة بالجدية والرصانة في اسلوب تناولها للأحداث، بتقرير عن الهجمات الارهابية مع مانشيت بارز “خبراء الارهاب يقولون وحده ابن لادن يمتلك الامكانات للقيام بهجمات مثل هذه“.
إلا ان صحيفة “بوسطن هيرالد” الصادرة في اليوم نفسه تجاوزت التخمينات والتوقعات وجاءت بما يفيد بأن اجهزة الشرطة في ولاية ماساشوتيس تمكنت من تحديد هوية خمسة من العرب الذين يشتبه بأن لهم ضلعاً في عمليات التفجير مستدلين في ذلك على عثورهم على سيارة مستأجرة مهجورة في مطار لوغان حيث انطلقت واحدة من الطائرات الانتحارية وبداخل السيارة كراسة تدريب على الطيران باللغة العربية، وكما أفادت الصحيفة فإن التحقيقات الأولية تشير الى أن مستأجري السيارة الذين يحملون جوازات سفر من دولة الامارات العربية المتحدة استقلوا الطائرة الانتحارية التي كانت متوجهة من بوسطن الى لوس انجليس وان احدهم هو طيار محترف.
لكن الرأي العام الاميركي الذي لم يكن قد استمع بعد الى الرواية الرسمية عمن يقف وراء حوادث التفجير، حينئذ، لم يكن بحاجة الى تقارير صحافية ومانشيتات مثيرة مثل تلك لكي يجري تعبئته في حملة الكراهية والتحريض ضد العدو الوحيد المحتمل قيامه بتلك العمليات الارهابية، إذ ان شاشات التلفزيون الاميركية كانت طيلة الليلة السابقة قد امتلأت بمعلقين ومحللين وخبراء في شؤون الشرق الاوسط والاستخبارات وفي قضايا العالم الاسلامي يدلون بدلوهم ثم يشيرون بأصابعهم بثقة باتجاه واحد نحو العرب، وعلى رأسهم اسامة بن لادن، كمتهمين مؤكدين وليسوا فقط محتملين في عمليات التفجيرات.
وإذا تجاهلنا التقارير الصحافية التي تتحول في مثل هذه الظروف الى مجرد وجبات سريعة مصحوبة بكل عناصـر التشــويق والاثارة فلم يكن اي من اولئك المحللين، مثل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، يشقى بالمنطق وبالبحث عن الأدلة لكي يصل من خلال الشك الى الحقيقة وبالتالي الربط بين السبب والنتيجة، إذ ان الحاجة، في وقت اطلقت شبكة سي. إن. إن الاخبارية على تغطيتها للاحداث “اميركا تتعرض للهجوم”، لن تكون للمنطق الديكارتي او حتى للتفكير البرغماتي الذي اخترعته اميركا نفسها بل الى كلام يدغدغ المشاعر عن اعداء اميركا الحقيقيين والمتخيلين امثال صدام حسين واسامة بن لادن ليس رودوفان كاراجيتش او كيم جونغ ايل وحكومات تضمها قائمة الدول المتهمة بالارهاب لوزارة الخارجية الاميركية مثل العراق وسورية وليبيا ليس صربيا أو كوريا الشـمالية.
في الجهة المقابلة كان العالم العربي يقف مذهولاً امام ما حدث حيث تسمّر معظم العرب امام شاشات التلفزيون التي راحت محطاتها الفضائية تتسابق في نقل الاحداث المتسارعة من نيويورك وواشنطن يراقبون ما يجري وكأنهم يشاهدون فيلماً هوليوودياً من تلك الأفلام التي أثارت خيال المخرج الاميركي ستيفن سبيليبرغ قبل أن يصحوا سريعاً على التلميحات او الاتهامات المباشرة التي تشير اليهم بأصابع الاتهام بالكارثة القومية التي حلت تواً بأميركا والتي ربما لا توازيها في الاحساس بالهزيمة والمهانة إلا كارثة ضرب اليابانيين لميناء بيرل هاربور اثناء الحرب العالمية الثانية.
انهيار الجسور
ولكن بغض النظر عن ردود الفعل العربية تجاه الحدث، التي تراوحت بين صمت وحيرة او تلقائية وعابرة صفقت له لأسباب عاطفية تتعلق بتاريخ مأزوم من العلاقات بين الطرفين، أو تنديدات سارعت بها القيادات العربية وبيانات التعاطف التي ادلت بها، فإن ما كان ينهار يومها أمام ناظر العرب جميعاً ليس فقط مبنى مركز التجارة الدولي والبنتاغون بل جسر آخر من تلك الجسور التي سعى الطرفان لبنائها عبر عقود طويلة كي تكون معابر للتفاهم والتوافق اللذين ظلا هشين وعصيين بسبب اختلال التوازن في المصالح، خصوصاً في ما يتعلق بالصراع العربي – الاسرائيلي. ولأن الهدف هذه المرة ليس قوات المارينز التي نزلت في بيروت أو المدمرة كول التي رست في ميناء عدن بل صرحان عملاقان يمثلان رمز القوة الاميركية فإن ترقب الغضب الاميركي لا بد ان يتعدى التوقعات عن الثأر بضربات عابرة الى ما هو أبعد من ذلك ويقيم بين العرب والاميركيين حفرة عميقة بدلاً من الجسور التي تقطعت مع التفجيرات الارهابية في نيويورك وواشنطن.
والاكيد الآن، وخصوصاً إذا ما ثبت من خلال ما ستسفر عنه التحقيقات أن هناك يداً عربية لها علاقة في تدبير وتنفيذ ما حدث فإن المواقف الاميركية من العالم العربي في الإطار الاستراتيجي العام وعلى مختلف الاصعدة لن تكون مستقبلاً كما كانت عليه قبل تفجيرات يوم 11 ايلول سبتمبر 2001، ذلك أن اميركا نفسها بل ربما العالم كله لم يعد كما كان قبل ذلك التاريخ الذي ربما سيوازي في اهميته يوم اكتشاف البارود والصاروخ والقنبلة الذرية، إذ ان ما حدث يومها وعلى حد قول وزير الخارجية كولن باول كان حالة إعلان الحرب على اميركا أو كما وصفها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بأنها كانت هجوماً على نمط الحياة الاميركية الحرة بهدف سلبها تلك الحرية. ستنسى الولايات المتحدة أن ابن لادن هو صنيعتها وأنها انتصرت به على الجيش الاحمر في افغانستان وهو الانتصار الذي فتح الباب بعدئذ لانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية وتتذكر فقط بأنه زعيم التطرف الاسلامي والعربي وعدوها الرقم واحد الذي نقل تلك الحرب الى قلب الحصن الاميركي وضرب رموز قوتها العسكرية والاقتصادية وحينها فإن “الاسلام فوبيا” وهو رديف “العرب فوبيا” والتهديدات المتصورة منها ستكون هي العنصر الأبرز في السياسة والاستراتيجية الاميركيتين المقبلتين وربما ستحظى بأولوية مطلقة على تلك المصالح المرتبطة بحماية اسرائيل والنفط التي ظلت محور استراتيجية الهيمنة الاميركية في المنطقة منذ عقود طويلة.
بعد يوم واحد من وقوع تلك الهجمات كانت النغمة السائدة بين مسؤولي ادارة الرئيس بوش هي عن تحالف دولي بدت واشنطن داعية وساعية لإنشائه للرد على الارهاب الذي طرق بابها بعنف هذه المرة، وإذا ما افترضنا ان مثل هذا التوجه جاد فإن الاسئلة التي من الضروري ان تُطرح هو ممن سيتكون هذا التحالف وضد من؟ وهل سيكون تحالفاً موقتاً أم بعيد المدى تتم تعبئته خلف نظريات مثل “صدام الحضارات” وبذلك يبدأ العد العكسي لتوقعات صاموئيل هنتنغتن عن الصراع المرتقب الذي ستؤججه الاصولية الاسلامية بين الغرب المسيحي والعالم الاسلامي؟ لنفترض للحظة واحدة ان ذلك أمر سيسعى اليه الصقور الذين تحتشد بهم هذه الادارة الاميركية رداً على ما تعرضت له الولايات المتحدة ودرءاً لتهديدات وضربات مقبلة إذا ما تركت الامر من دون عقاب. فما الذي سيحدث وكيف سيكون بقدرة الخيال ان يتصور المنحدر الذي ستنزلق اليه العلاقات العربية ـ الاميركية، ليس في طابعها الرسمي بل على مستواها الحضاري والتاريخي لو ساد نتيجة الهجمات الاخيرة مزاج في اميركا تجاه العرب يتسم بالغلو والتشدد والاستياء؟
الولايات المتحدة، وحتى بعد ان تفيق من الصدمة ستبدو مثل نمر جريح يريد ان يثأر لكرامته، ولأن الأمر سـيكون متعلقاً بالعالم العربي هذا الكيان الضعيف من وجــهة نظرها، فإن اكثر ما يمكن ان يخشاه المرء هو أن ينزلق صقور الادارة الى استخدام قوانين الغاب بدلاً من اسلوب التعاون والمشاركة في جهد دولي منظم لاستئصال الارهاب، خصوصاً وأن هناك الكثيرين، كما فعل بعض القادة الاسرائيليين، أو لحسابات تتعلق بصراعات اقليمية مثل تلك التي بين الهند وباكستان او روسيا والشيشان الذين سيجدون ان من مصلحتهم الدفع بالطرفين الاميركي والعربي نحو الهاوية.
لكن الأمور، مع ذلك، قد لا تكون او تصبح بالسوء الذي تبدو عليه. ففي اوقات الازمات يميل القادة – والاميركيون ليسوا استثناء – الى الانسياق وراء العواطف الجياشة ويدلون بتصريحات نارية بسهولة بالغة بهدف اشباع الغرائز التي فلت عقالها كما قد تنحدر سلوكيات بعض الاميركيين في موجة معاداة العرب الى سيكولوجية القطيع، لكن اميركا دولة عظمى بكل المقاييس وعليها مسؤوليات اخلاقية والتزامات تاريخية لا يمكن ان تسمح لها في هوجة الغضب والتعصب الاعمى بالوقوع في خطأ تحويل “الاسلام فوبيا” إلى صراع أو نزاع حضاري مع العرب والمسلمين.
هناك درسان على الادارة الاميــركية ان تعيهما في معالجة الازمة الحالية لو ثبت فعلاً ان اطرافاً عربية نفذت او شاركت في الهجمات الارهابية في نيويورك وواشنطن. الدرس الاول الذي عليها ان تتعلمه هو من التنديدات القوية بالانفجارات التي أتت من شخصيات وتنظيمات اسلامية، مثل الرئيس الايراني محمد خاتمي والسيد محمد حسين فضل الله وشيخ الأزهر الشريف الشيخ محمد سيد طنطاوي وحركة الاخوان المسلمين.
أما الدرس الثاني، والذي عليها ان تنبذه، وهو من الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، إذ لا ينبغي عليها ان تتعلم من اسرائيل كيفية الانتقام من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة بأسلوب عشوائي وغريزي كلما وقع انفجار في تل ابيب أو نهاريا، فتجربة الانتفاضة اثبتت مثلما حدث ذلك عبر التاريخ الانساني كله، أن ارهاب الدولة لا يقضي على الارهاب وسيكون من المدهش حقاً ألا تكون الولايات المتحدة قد تعلمت ذلك بعد.