شهادة عراقية،
لماذا لم يحل الربيع العربي في العراق بعد؟
                                                   صلاح النصراوي
في خضم الثورات التي تعم عددا من الدول العربية منذ بداية عام 2011 تردد على السنة العديد من العراقيين، وغيرهم، تساؤل عما اذا كان العراق سيلحق بحركة الربيع العربي في مقاومة، وربما الاطاحة، بالنظام القائم، الذي يرى فيه اغلبية العراقيين نظاما فاشلا، قائما على الاقصاء والتهميش والظلم، لا يقل في استبداده وفساده عن الانظمة التي سقطت، او التي في طريقها الى السقوط.
ان كنه السؤال يفترض ان العراق يبقى استثناءا،ً بسبب وضعه الخاص الناتج عن الغزو الذي اسقط النظام الشمولي الدكتاتوري لصدام حسين، وكذلك طبيعة النظام الذي اقامه الاحتلال القائم شكلاً، وليس مضموناً على الانتخابات، والبرلمان والتعددية التي تعكس المكونات الدينية والعرقية للشعب العراقي، باعتبار ان كل ذلك آلية ديمقراطية بإمكانها التعامل مع اية حركة احتجاجات سياسية قد تنشأ.
والواقع ان بعض القيادات العراقية عزفت على هذه النغمة بالذات حين ردت على حركة احتجاجات متواضعة في ساحة التحرير في بغداد وفي مدن اخرى في الجنوب والوسط، وفي كردستان، بدأت غداة ثورات مصر وتونس، مدعية دون خجل، ان العراق سبق اشقاءه العرب بالثورة، مشيرة الى سقوط صدام بالغزو الامريكي، باعتباره التغير الرائد في المنطقة، وهو ادعاء يستهين بالثورات العربية المعاصرة، كما انه مهين لتاريخ الحركة الوطنية العراقية ونضالها ضد الدكتاتورية والاستبداد، ومن اجل العدالة والحرية، ماضيا وحاضراً.
ان القمع الذي جوبهت به حركات الاحتجاجات البسيطة دليل ساطع على خيانة الاطراف المشاركة في السلطة لكل المبادئ التي وحدت العراقيين في النضال ضد الدكتاتورية وفي امالهم بدولة مدنية ديمقراطية تعددية تعبر عن مصالح الجماعة الوطنية كافة.
وانا من موقعي، أريد هنا ان ادلي بشهادتي للتاريخ بان عراقيين بدؤا فعلاً عملية تخطيط دؤبة منذ نحو اربع سنوات، في مسعى لبذر بذور انتفاضة، وثورة جماهيرية سلمية في العراق من خلال تنشيط النخب في التيار الوطني العام، وتعبئة الاغلبية الصامتة للعمل على تغير النظام القائم سلميا وبالطرق السياسية، واحلال نظام ديمقراطي وطني محله، لا يرتكز الى سياسات المحاصصة وتقاسم السلطة بين المافيات السياسية التي تحكم بالغلبة والجور والفساد.
لقد وجدت من الضروري ان اسجل هذه الشهادة في كتاب (سيصدر لاحقا) عن السؤال عن متى يأتي دور العراقيين في الربيع العربي، بل وايضا شهادة عن ربما أخر جهود ومحاولات نبيلة وشريفة بذلت لانقاذ العراق من محنته الوطنية، ولكنها لم تلق النجاح حينئذ لاسباب عديدة، سأتناولها تفصيلاً في شهادتي الموسعة.
ان دافعي الاهم هو ان يتعرف العراقيون على تلك المحاولة التي كان هدفها الاساس دفعهم للمشاركة الحقيقية في عملية تغير وطني يأخذون من خلالها زمام الامور بأيديهم، لا بأيدي محتلين اجانب، او من نصبوهم، ويصنعون مستقبلا ديمقراطيا وتعدديا، بديلاً عن نظام المحاصصة اللصوصية القائم، اضافة الى ان تتعلم الاجيال القادمة من العراقيين من التجارب التي خاضتها اجيال من الوطنيين التي سبقتهم، وتفادي الاخطاء التي وقعت فيها.
فبعد ثلاث سنوات من الاتصالات المكثفة اجتمع حوالي عشرين شخصية عراقية من التيارات الوطنية الديمقراطية، والتي ساهمت عبر عقود طويلة من الزمن في النضال ضد الانظمة الدكتاتورية، في القاهرة في شهر أيار عام 2010 في اجتماع غير معلن، بسبب رفض الجهات المصرية الرسمية ذلك، للاعداد لمؤتمر تحضيري في بغداد في الفترة اللاحقة بهدف الاعلان عن تحرك هدفه ضم كل القوى الساعية، لاعادة بناء العراق، دولة مدنية ديمقراطية تعددية، لجميع ابنائها، وعلى اساس المواطنة.وبسبب عدم استشارتي لهم فاني سأكون في حل الان من ذكر اسماء تلك الشخصيات الوطنية التي ضمت وزراء سابقين، وسياسين مخضرمين، واكاديميين وشيوخ عشائر، اضافة الى تأييد ومباركة شخصيات اخرى كانت تنتظر دورها للمساهمة في المؤتمر التحضيري بعد ان باركت وأيدت المسعى منذ بدايته.
ما استطيع ان اؤكده الان ان الاجتماعات التي عقدت في القاهرة استغرقت اربعة ايام متتالية جرت اولا بمبادرات عراقية محضة من المشاركين انفسهم، دون اي تدخل او مساعدة من طرف اجنبي، وثانيا انها اولت اهمية قصوى باعتبارها تحركا غايته الاساسية هي تحشيد وتعبئة طاقات القوى العراقية المختلفة وراء هدف بناء الدولة المدنية الديمقراطية من خلال العمل السلمي المنظم، وثالثا ترك الشكل التنظيمي للتحرك المرجو الى المؤتمر التحضيري المزمع عقده لاحقا.
بدأت فكرة التحرك العراقي تلك بعد الفشل الذريع الذي واجهه مؤتمر “سبل تفعيل الوسط الديمقراطي لبناء الدولة المدنية الاتحادية الديمقراطية” والذي عقد في اربيل، في نيسان 2007 والذي اتضح انه يخفي غايات واجندات بعيدة عن هدف المؤتمر المعلن.وكنت قد قاطعت شخصياً جلسة المؤتمر الختامية التي رعاها السيد مسعود برزاني، رئيس اقليم كردستان، احتجاجا على تغيرات اخيرة اجريت على البيان الختامي للمؤتمر، والذي كتبته بيدي، بصفتي رئيسا للجنة البيان الختامي، بعد نقاشات طويلة ومعمقة تم بعدها الموافقة على صيغته النهائية.
كان من بين اسباب فشل المؤتمر افتضاح الميول التسلطية التي ابدتها الاحزاب السياسية المشاركة في السلطة ومحاولتها استخدام المؤتمر لتمرير اجنداتها الفؤية الضيقة وتحويل التيار الديمقراطي الى اداة والعوبة تستخدمها في صراعاتها وتحقيق مصالحها قصيرة النظر.ان الجانب الايجابي في مؤتمر اربيل هو كشفه عن قوى كامنة في المجتمع العراقي تتطلع بصدق واخلاص لبناء عراق ديمقراطي بعيداً عن الحسابات الطائفية والعرقية الانانية ووجهات النظر القاصرة، وهو ما حاولنا، وسعيت انا شخصيا، للبناء عليه في المحاولات اللاحقة.
 ونتيجة لذلك استمرت الاتصالات خلال الفترة اللاحقة وخاصة داخل نواة من النشطاء البارزين، الذين كانوا قد شاركوا في توجيه نداء طلب التنحي لصدام حسين في شباط 2003، وعشية الغزو الامريكي بعد رفضهم المشاركة في مؤتمر المعارضة حينذاك بهدف بلورة موقف بشأن المأزق الوطني الذي دخل اليه العراق، بسبب انسداد افق العملية السياسية، وفشل المشروع الذي بدأه الاحتلال.ان جزءا من النشاط اللاحق توجه الى الامم المتحدة حيث طالب بعض المشاركين الامين العام بان كي مون في مذكرات رفعت اليه بتولي المنظمة الدولية وفق الصلاحيات التي خولتها لها قرارات مجلس الامن الوصاية على العراق لفترة انتقالية ريثما يتم تحرير البلد من الاحتلال واطلاق عملية سياسية صحيحة، تتيح بناء العراق كدولة مواطنة مدنية ديمقراطية.
وضمن هذه المواقف الرافضة للامر الواقع الذي فرضته العملية السياسية الكسيحة رفضت انا وزملاء أخرين المشاركة في مؤتمر المصالحة الوطنية الذي عقدته وزارة الحوار الوطني  في اذار 2008 في بغداد باعتباره محاولة لتبيض سمعة الحكومة وليس مشروعا جادا للمصالحة.وعلى اثر الاتصالات الكثيفة التي اجراها وزير الحوار الوطني انذاك السيد اكرم الحكيم في القاهرة في صيف عام 2009 وافقت مع بعض الزملاء على عقد ندوة مغلقة في بغداد في تشرين الاول من العام نفسه للبحث في كيفية تحقيق المصالحة الوطنية واقترحت على المشاركين من قادة الاحزاب السياسية، ثم في لقاء خاص مع رئيس الوزراء السيد نوري المالكي ومع قادة الكتل البرلمانية، برنامجا تفصيليا للمصالحة الوطنية يقوم على اسس واضحة وتستند الى مفهوم الشراكة ضمن مفهوم الكتلة التاريخية، بديلا عن نظام المحاصصة، كما حذرتهم من مغبة الاستمرار في عملية سياسية عقيمة.
ان عدم اصغاء القيادات السياسية الحاكمة لمناشدات حل المأزق الوطني اوقع البلاد في ازمات سياسية وأمنية متتالية، وخاصة تلك الازمة التي نشبت حول تشكيل الحكومة الحالية اثر الانتخابات الاخيرة، والتي لا تزال مستمرة، مما دعانا الى تكثيف العمل والاتصالات بغية توحيد الجهود مرة ثانية بهدف اطلاق حراك سياسي وطني وفق اسسس مدروسة وواقعية يلجأ الى كل الوسائل السلمية الممكنة لدرء انحدار العراق الى هاوية سحيقة.وعلى مدار عدة اشهر وبعد لقاءات تحضيرية في عدة عواصم تم اعداد الوثائق اللازمة بشأن اطلاق التحرك والتي تمت مناقشتها وتعديلها مرات عديدة كما تم الاتفاق على عقد اللقاء في القاهرة وعلى مسؤولية المشاركين العراقيين، بعدما رفضت الجهات المصرية المسؤولة الموافقة على عقده.
وبالتأكيد فان انعقاد الاجتماع في الظروف الصعبة التي صاحبته والتحديات التي واجهته كان بحد ذاته تعبيراً عن الارداة والتصميم اللذيان ابدياه المشاركون، وكذلك الامال التي رسمها عليه المئات من النشطاء، وغيرهم من العراقيين، الذين كانوا ينتظرون بحرارة اطلاق المشروع للانظمام اليه، او دعمه.
ومع الاسف الشديد وبرغم كل تلك الجهود فقد فشل المشاركون بعد اربعة ايام من النقاشات في التوصل الى اتفاق، خاصة بشأن خطة التحرك لـ”المبادرة الوطنية العراقية” والتي كانت تقوم بالاساس على فكرة استنهاض الاغلبية الصامتة في العراق وتحريكها واستقطاب النخب السياسية الوطنية في حركة جماهيرية تحقق التغير المطلوب من خلال الشارع.وفي تقديري وانا اسجل شهادتي هذه، فان فشل المبادرة يعود بمجملها الى الامراض المزمنة التي عانت منها حركات المعارضة العراقية التقليدية، والتي وقفت دائما عائقا في طريق انجاز المشروع الوطني.
لقد صاحبت الاستعدادات نوايا طيبة، وجهود مخلصة، واحساس بضرورة العمل على انقاذ العراق من محنته، ولكن ما كان يتطلبه المشروع هو مدخل ابداعي وخيال سياسي وقدرة على التضحيات تفوق ما لدى بعض المشاركين من افق وتجربة واستعداد.
واريد ان اسجل هنا باني كنت صاحب الفكرة منذ البداية، كما اني توليت جانباً كبيراً من الاتصالات، وقمت بجهود مضنية في اعداد وثائق الاجتماعات وبرنامج عمل مقترح استندت في اعداده الى نقاشات مطولة، جرت مع المشاركين، ومع نشطاء عراقيين في الداخل والخارج، بهدف بلورة المشروع الهادف الى اعادة بناء العراق كدولة مواطنة مدنية وعلى اساس صيغة  الحل الوسط التوافقية تجاه الاراء التي عبر عنها الجميع القادمون من خلفيات سياسية وايدلوجية مختلفة.
شخصيا لم اعمل في احزاب او تنظيمات سياسية من قبل، الا اني عملت في المجال السياسي العام طيلة اربعين عاما، واعتبرت نفسي دائما مثقفا سياسيا، وهو الدور الذي وضعه على عاتق عراقيين كثيرين مثلي، انحطاط السياسة في العراق وممارساتها، خلال حقب طويلة، مما يحتم عليهم، وخاصة في فترات الازمات الكبرى، ان يساهموا بأفكارهم ورؤاهم، ويتقدموا بمبادراتهم الخاصة، وهو ما عملت وسأظل اعمل عليه.    
كنت مدركا ان اطلاق مبادرة سياسية، مهما كان الشعار الذي تحمله، لا يعني ان طريقها مكلل بالنجاح الفوري، فلابد اولا من برنامج عمل يتناسب مع الاهداف المرجوة والظروف الموضوعية والمصادر المتوفرة.واريد التأكيد هنا، وهو بيت القصيد، ان البرنامج الذي صغته، والذي جرى النقاش حول بعض عناصره، كان برنامجاً ثورياً، هدفه تحريك الشارع العراقي، بطريقة هي اشبه بتلك التي جرى فيها استنهاض المصريين بعد اشهر من اجتماعنا ذلك، مع الاخذ بنظر الاعتبار الوضع العراقي، وظروفه ومتطلباته وتعقيداته.
وخلال المناقشات التي جرت تم استعراض تجربة داعية الديمقراطية البارز محمد البرادعي والجمعية الوطنية للتغير في مصر التي يقودها والحملة التي اطلقها لجمع التواقيع بهدف تعبئة الشارع للنضال في مشروع التغير ضد نضام حسني مبارك.كما كانت في البال تجربة حركات التغير الجنينية في مصر انذاك ومنها حركة كفاية وحركة 6 ابريل، باعتبارهما من تجارب العمل الجماهري للتغير التي يمكن الاستفادة منهما.
ومن المؤكد انه كانت هناك امكانية لوضع برنامج العمل وصياغة خطة التحرك، لو كان الاتفاق قد تم بين المشاركين على اشهار المبادرة، وترسيخ كيان الحركة، التي كانت ستطلق شرارة الثورة العراقية سواء بالتزامن مع شقيقاتها في الربيع العربي، او في الوقت الملائم لها.ومع ذلك وما أود تأكيده ايضا، هو رغم شعوري الشخصي بخيبة الأمل، الا انني لا ازال مقتنعا بان الربيع العربي آت بقوة وسيفتح، آجلا ام عاجلا، الباب لكي تدخل نسماته المحملة بالتغير والديمقراطية بلدنا العراق، وباقي البلاد العربية وبلدان المنطقة كافة.
انني اضع هذا كله كشهادة للتاريخ وكجواب عن تساؤلات عن لماذا لم يحط الربيع العربي رحاله في العراق بعد، وكدعوة للقوى الوطنية والديمقراطية، وخاصة الاجيال الشابة منها، لكي تتخلى عن انانيتها وعجزها وترددها وتستنهض قواها من أجل بدء ثورة التغير، ثورة بناء دولة عراقية مدنية ديمقراطية لكل مواطنيها.      
                                                                                    

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *